«علاء الديب»... درس فى إتقان الكتابة

عمار علي حسن الخميس 25-02-2016 21:23

ما إن يأت أحد على ذكر الكاتب الكبير الأستاذ علاء الديب، الذى غادر دنيانا قبل أيام إلى رحاب ذى الرحمة والجلال، حتى تستدعى الأذهان صورة ذلك الصانع الماهر الذى ينهمك فى جلسته الطويلة بنسج سجادة يدوية، متينة الخيوط وبديعة الألوان، غير عابئ بخطوط الإنتاج الآلى وماكيناتها التى تزمجر إلى جانبه، وتغرق السوق بما صنعت.

مضى، الديب، وفى كفيه أعمال تقل عن عدد أصابع يديه، لكنها وضعته فى مصاف الكبار، كما هى حال الطيب صالح والمكسيكى خوان رولفو، لكنه زاد عليهما بأن فتح عقله وقلبه لآخرين، أدباء وكتاب ومفكرين وباحثين، يلتهم ما أبدعوه أو ألفوه وصنفوه وأعدوه، ويخرج رحيقا صافيا فى باب صحافى، ظل يكتبه عقودا من الزمن، تحت عنوان «عصير الكتب»، ليلفت الانتباه إليه بشدة، كواحد من أبرع المحتفين بكل كتاب جديد يقع تحت عينيه، ويروق له، أو يدرك أنه مهم بالنسبة للناس.

حكى لى الأديب الكبير محمد المنسى قنديل كيف فوجئ ذات يوم بعلاء الديب يقف فوق رأسه، وهو جالس فى غرفة بيت بسيط بالمحلة الكبرى يذاكر دروس الطب. كان الديب يومها معروفا، وكان قنديل على أول الطريق، نشر حفنة من قصصه القصيرة فى صحف ومجلات، لكنه عبر بها عن موهبة أصيلة، التقطها الديب وراح يبحث عنها. وحين رفع المنسى رأسه وسأله: كيف وصلت إلى هنا؟ ابتسم وقال: سألت باعة الكتب القديمة عنك فدلونى عليك. هكذا كان الرجل يبحث عن الذين يظنون أنه لا يعرفهم، ولا يعير ما يكتبونه أى اهتمام، فكان يفاجئهم بقراءة أعمالهم، والكتابة عنها بمحبة وامتنان.

فى أعماله الأدبية، روايات وقصص، ضرب الديب مثلا ناصعا فى القدرة على الاختزال والإزاحة والتكثيف، فجاء نصه شاعريا خاليا من ورم الكلمات، التى لا تضيف جديدا إلى المعنى، وفى هذا كان الأكثر التزاما بوصية يحيى حقى، الذى انشغل لتخليص السرد العربى من أعباء التكرار والاجترار والانجرار وراء وحول السجع والمحسنات والمترادفات التى لا تؤدى إلى تقدم النص والمعنى، وتخلق نوعا من ركود السرد، وتتعامل مغ اللغة ليس بوصفها وعاء للمعانى إنما مجرد قلائد زينة.

تظهر هذه المهارة بشكل واضح فى ثلاثيته: «أطفال بلا دموع» و«قمر على مستنقع» و«عيون البنفسج»، فرغم أن الديب استعمل فيها تقنية لورانس داريل فى «رباعية الإسكندرية» حيث تعاد الحكاية نفسها بألسنة متعددة، ومن وجهات نظر مختلفة تماما، فإنه أشعرنا مع كل جزء بأننا أمام حكاية جديدة، تجنب فيها التكرار، واستغنى عن التفاصيل، واستعاض عن الحوار المتعدد بسبر أغوار نفوس أبطاله، واستغراقهم فى استبطان أشبه بمناجاة دائمة، والوقوف على الحد الفاصل بين التذكر والتخيل.

تعب الديب على نصه، وأعطى درسا بليغا فى إتقان الكتابة، وظنى أنه كتبه غير مرة فهذبه وجعله يصل إلى المعنى من أقرب وأجمل طريق، لينتهى إلى هذا التكثيف الشديد، الحافل بالصور والمفارقات والشاعرية والمعانى الفلسفية والنفسية والاجتماعية العميقة. وربما هذا هو الذى جعله يتعامل مع الكتابة بشعور تختلط فيه المحبة بالهيبة، وتتصارع فيه الرغبة فى الانطلاق مع الميل الصارم إلى التمهل، وبدا الديب يتصرف وكأن الزمن طوع بنانه، يتحدث مع من كانوا يطالبونه بعمل سردى جديد عن أن رأسه مشحون ومسكون بقصص وحكايات وأنه سيكتبها، فينتظرونها، لكنه كعادته كان يهرب فى نصوص غيره، يتذوقها ثم يكشف فيها عن درر مخبوءة، تكون أحيانا غائبة عن آخرين، بل عن كاتبيها أنفسهم، لينثرها بمحبة ظاهرة فوق السطور.

كان أصحاب هذه المطالبات صنفين، الأول يريد هذا السرد الشاعرى العميق كما فى الثلاثية التى تصدر روايات حاليا تصل إلى ثلاثة أضعافها من زاوية عدد الصفحات، البعض كان يطلب منه كتابة أخرى على غرار روايته الأطول نسبيا «زهر الليمون» التى نذهب فيها مع بطلها «عبدالخالق المسيرى» فى رحلة قصيرة مفعمة بالانكسارات والأحزان التى تبدأ من غرفة صغيرة فوق سطح بيت قديم بمدينة السويس وتنتهى فى القاهرة، وتجسد عبر هذه «التغريبة الطارئة» محنة جيل الخمسينيات والستينيات فى مصر، حيث الأحلام الكبرى المجهضة، وعودة الشعور بالاغتراب، وطرح التساؤلات المركبة عن سبل الخروج من ضيق الآتى إلى براح الآتى. وبذا فالرواية تقدم خبرة إنسانية حية وعميقة.

لكن الديب يستجيب بطريقته فيكتب كتابه «وقفة قبل المنحدر: من أوراق مثقف مصرى»، الذى يشكل شهادة جارحة وبارحة على ثلاثة عقود مصرية ( 1952 ـ 1982)، ويقول هو عن هذا الكتاب: «هذه الأوراق أراها، محزنة، محيرة، وكئيبة. لكنها صادقة، صدق الدم النازف من جرح جديد.هى أوراق حقيقية، كان من الضرورى أن تكتب؛ لأنها كانت البديل الوحيد للهروب مع أى شيطان أو للانتحار».

ويحاول الكتاب أن يجيب عن أسئلة من قبيل: «ماذا حدث لنا فى تلك السنوات؟ ماذا حدث للناس وللبلد؟ من أين لإنسان يشعر ويفكر أن يحتمل فى حياته كل هذه التقلبات والتغيرات؟ أليس من حق الإنسان أن يلتقط أنفاسه، ينعم بحياة مستقرة بعض الشىء، هادئة بعض الشىء، مفهومة بعض الشىء؟!» وفى كل الحالات كان حريصا على أن يبقى على بعد مسافة شاسعة من القبح والهوان والتسلط، وحريصا على أن ينبه الغافلين، اللاهثين وراء كل شىء رخيص، من أن ينزلقوا إلى المنحدر، إلى الهاوية، إلى ما ليس له قرار، وإلى الضياع، والذهاب بلا عودة.

ولأن الديب كان يميل إلى التأمل الطويل والتبصر ويؤمن بدور الحدس شأنه شأن الخبرة والوعى فى حركة الحياة، حرص على أن يترجم كتاب «الطاو» للفيلسوف الصينى لو تسو، وهو يحوى الفلسفة الطاوية الغارقة فى التأمل والصبر والحكمة والبحث الدائم عن الامتلاء الروحى والسمو الأخلاقى. ويقول الديب فى مقدمة الكتاب: «أقدمتُ على ترجمة هذا النص فى فترة ارتبكت فيها حياتى: هزائم خاصة، وهزائم عامة، وارتباك فى الفكر والسلوك. وكان لهذه الترجمة تأثيرها: لا أقول عالجت الموقف، ولكنها أضاءت بعض جوانبه، ودعتنى إلى الاعتدال والبساطة فى تناول الحياة».

ظنى أن هذا النص البديع، الحافل بالفلسفة والأخلاق والجمال، قد أثر فى الديب تأثيرا كبيرا، فليس المهم كم تكتب؟ لكن كيف تكتب كلمات تبقى؟ كلمات ليس أبنية مرصوصة كغابات الأسمنت تملأ العيون قبحا، لكن كزهور يانعة تملأ العين بهجة، والقلب طربا، والعقل حكمة، والطريق نورا، فنمضى على هداها إلى كل الغايات النبيلة.

لقد ظل الديب يطرح التساؤلات حول مأساة جيله، والجيل الذى أتى بعده، فتراكمت الأعباء وزادت الأوجاع، مع جسد يضمر، وعينين تسكنهما العتمة رويدا رويدا، مفسحة طريقا للبصيرة، حتى قامت ثورة يناير المجيدة، فتفاعل معها كتابة، رغم مرضه الشديد وقلة حيلته وهوانه على كثيرين. ربما رأى فى هتافات الغاضبين الذين فاضت بهم الشوارع الباردة، إجابة كبرى على الأسئلة التى طرحها قبل الانزلاق إلى المنحدر، لكنه راح يتابعها بأسى وهى تراوح مكانها، دون أن يفقد الأمل فى أن الشعب سينفخ فى أوصالها من جديد، فتتجدد وتقوى، جارفة أمامها الفساد والاستبداد، لكن ها هو الموت لا ينتظره، ويغيبه قبل أن يرى حلمه هذا يتحقق، يرى أولئك الذين فهموا ووعوا الدرس فوقفوا قبل المنحدر، مصرين على ألا ينزلقوا فيه أبدا.