يشكل «النقل العام» فى مجتمع «الثغر» خدمة بتعريفة اجتماعية محددة، يستفيد منها الآلاف من المواطنين، فهو المحرك الأساسى للحياة داخلها، حيث تدور فى فلكه وتعمل وفق نصوصه، منذ أعوام كثيرة مضت على إنشاء الهيئة العامة لنقل الركاب فى المحافظة، التى تصاعدت خلالها وتيرة الأحداث فى بعض الأحيان، وانخفضت فى أحيان أخرى، وكان لتزايد ضغوط الظروف والأوضاع الراهنة تأثير مباشر عليها، خاصة فيما يتعلق بتحريك الهموم « المدفونة» فى صدور العاملين بها.
«إسكندرية اليوم»، تفتح من خلال 4 حلقات متصلة ملف النقل العام فى «الثغر».. رصدت داخلها الحالة التى آلت إليها أوضاع مرفق الترام بشقيه الأزرق والأصفر، عقب مرور أكثر من مائة عام على إنشائه، فيما سلطت الضوء على مشكلات وهموم تؤرق العاملين فى مختلف المرافق التابعة للهيئة خلال السنوات الأخيرة، كما حاورت المسؤولين عن إدارة وتسيير العمل فى الهيئة بالمحافظة.
فى ترام «المدينة»: عربات «متهالكة» وإشغالات «مستمرة».. وسائقون: نسير بـ«البركة»
عملاق حديدى تدب فيه الحياة بمجرد انتصاب العصا الحديدية الموجودة على سطحه.. تلك المسماة بـ«السنجة» وملامستها خطوط التيار الكهربائى.. يتمايل يميناً ويساراً، وسط ضجيج متواصل لا ينقطع إلا باختفائه عن الأنظار.. مشهد يومى متكرر تعودت عليه أعين مواطنى «الثغر» منذ عشرات السنين فى كثير من الشوارع والميادين، التى يجوبها ذلك العملاق ذهاباً وإياباً فى خفة يحسد عليها.
ذكريات كثيرة وأحداث متشابكة، تتراص أمامك فجأة، ما إن تصعد على متن إحدى عرباته. ربما تكون مجرد ذكريات فى نظر البعض منا، لكنها فى حقيقة الأمر شواهد وأدلة مؤكدة على هذه العراقة التى لاتزال تنبض بالحياة وتتحرك على القضبان فى العديد من الشوارع، رغم ما واجهته ولاتزال حتى يومنا هذا.
إنه «الترام».. أحد أبرز الشواهد والمعالم الحضارية الدالة على تاريخ طويل رفق بدأت رحلة عطائه منذ أكثر من مائة عام ومدينة عريقة شاء القدر أن يتم اختيارها منذ أشهر قليلة عاصمة لللسياحة العربية.
وطبقاً لأحدث إحصائيات الهيئة العامة لنقل الركاب فى المحافظة، فإن متوسط التشغيل «اليومى» فى مرفق الترام- الذى يعد أقدم وسيلة مواصلات جماعية فى أفريقيا- بلغ خلال عام 2009/2010 نحو 119611 راكباً بالنسبة لترام المدينة «الأصفر»، و166235 راكباً لترام الرمل «الأزرق»، وأغلبهم من الموظفين والعمال فئة «محدودى الدخل» وطلاب المدارس والكليات.
حاولت «إسكندرية اليوم» إلقاء نظرة عن كثب على الوضع الحالى، الذى آل إليه الترام تزامناً مع وصف البعض لها بأنها أصبحت «ذات وجهين» خاصة فى أعقاب الانتقادات الشعبية التى وجهت لـ«الهيئة» بشأن اهتمامها بتطوير ترام الرمل وخطوطه، لكونه أحد المعالم السياحية التى تخترق عدة مناطق راقية فى المحافظة، دون النظر إلى حالة ترام المدينة الذى تعانى عرباته وقضبانه ومساراته، التهالك وانتشار العشوائية والإشغالات بها رغم مساهمتها الواضحة فى حل مشكلة المواصلات فى العديد من الأحياء والمناطق الشعبية.
لم يكن يَدُر فى مُخَيلة الخديو عباس حلمى الثانى، أثناء مشاهدته تشغيل أول عربة ترام تتحرك بالكهرباء فى المحافظة، فى سبتمبر 1897، أنه سيأتى يوم ترتفع فيه حدة الانتقادات الموجهة للمسؤولين عن وسيلة النقل الجماعية، التى أسسها بمعاونة إحدى الشركات البلجيكية لخدمة سكان المدينة، من قبل المستفيدين منها والعاملين عليها، نتيجة ما وصفوه بـ«عدم صلاحيتها للاستخدام لانتهاء عمرها الافتراضى منذ سنوات طويلة».
واتفق كثير من الركاب والعاملين فى خطوط ترام المدينة على أن الحالة التى آل إليها الترام الأصفر «لا تسر عدو ولا حبيب»، خاصة مع تشعب خطوطه وتزايد عدد المستفيدين منه، فى الوقت الذى تعانى فيه هذه الخطوط من مشكلات كثيرة، أرجعوها بدورهم إلى اهتمام «الهيئة» بتطوير ترام الرمل دون النظر إلى ترام المدينة.
حالة الإجماع تلك التى سادت بين جمهور ركاب الترام «الأصفر» خلال السنوات الأخيرة، بشأن معاناتهم من تردى حالة العربات وغياب التواجد الأمنى داخلها، تجسدت ملامحها بشكل واضح فى الكلمات المُقتضبة التى جاءت على لسان الشيخ محمد كمال، ذلك الرجل الخمسينى ذو اللحية البيضاء أثناء جلوسه على أحد المقاعد التى بدت عليها آثار التهالك واضحة، عقب استقلاله إحدى عربات الترام فى منطقة الورديان، قائلاً: «الترام دلوقتى بقى بحالات، ومواعيده مش منتظمة زى زمان، وكمان حالة الكراسى والعربات سيئة للغاية».
تنهيدة قصيرة لم تستغرق ثوانى معدودة اضطرته إلى التوقف عن الحديث معنا، ليعود بعدها إلى استئناف حديثه قائلا: «لغاية فترة الثمانينيات كانت حالة الترام ممتازة لدرجة أن الناس كانت تضبط ساعاتها على مواعيد رحلاته، وكمان كانت العربات جديدة ويتم تطويرها كل سنة، لكن دلوقتى مفيش خدمة كويسة لأنه بقى مقلب زبالة سواء من جوه ولا من بره.. وكل ده بسبب غياب الرقابة المفروضة من مفتشى الهيئة عليها». وأكد حسن جمعة، أحد الركاب، أن عربات الترام تحولت إلى سوق متنقلة للباعة الجائلين الذين ينتشرون، بحسب تعبيره، فى كل المحطات، «لأنه مفيش رقابة عليهم ولا تواجد أمنى فيها يمنع الناس دى من مضايقة الركاب والتحرش بهم، خصوصاً أن معظمهم من البلطجية والمسجلين خطر».
وأشار «جمعة» إلى أن جميع محطات الانتظار الموجودة فى الخطوط والمسارات الرئيسية تعانى الإهمال الشديد من قبل الهيئة، ما أدى، وفق قوله، إلى سيطرة الباعة الجائلين عليها.
الوضع لم يختلف كثيراً لدى السائقين والمحصلين الذين يعملون على هذه الخطوط، حيث أبدى العديد منهم استياءه الشديد مما وصفوه باهتمام مسؤولى الهيئة بعمليات تطوير وتحديث العربات ومسارات الخطوط فى ترام الرمل، دون الاهتمام بإحلال وتجديد سيارات ترام المدينة. وقال (م . ج)، أحد السائقين، طلب عدم ذكر اسمه، «إن أكبر مشكلة تواجههم منذ سنوات طويلة هى انتهاء العمر الافتراضى للعربات التى يعملون عليها، بالإضافة إلى عدم استجابة مسؤولى الهيئة لمطالبهم المستمرة بشأن تطويرها وحاجتها لعمليات صيانة شاملة. وأضاف: «ترام المدينة طول عمره مَنْسِى وكل حاجة فيه ماشية بالبركة منذ فترة طويلة، ومعظم العربات لا تصلح للاستخدام الآدمى لأنها مفروض كانت تتكهن من زمان، وده السبب فى كثرة الأعطال اليومية اللى بتأخرنا عن مواعيدنا وتخلى الناس تشتكى».
وقال إسماعيل عبدالظاهر، أحد السائقين، إن أبرز المشكلات التى تواجه السائقين أثناء رحلاتهم اليومية هى اضطرار السائق إلى إيقاف السيارة والنزول إلى الشارع عند تحويل المسار باستخدام «عَتَلَة» حديدية عند كل تحويلة، رغم أن نظراءهم فى ترام الرمل لا يفعلون ذلك الأمر لتخصيص الهيئة، بحسب زعمه، عمالاً يتولون أداء هذه المهمة نيابة عنهم.
وقال حسين عبدالحميد، ملاحظ بأحد الخطوط، إن مشكلات وحوادث وأعطال ترام المدينة أصبحت كثيرة و«مزمنة»، نتيجة تشعب خطوطه وعدم وجود حرم محدد خاص به ينظم مساراته المختلفة، ما يتطلب-حسب تأكيده- ضرورة قيام الهيئة بتطويره فى أقرب وقت، «بس ده مش معناه إنها تجيب عربات جديدة، لأن ده لو حصل هتتكسر طبعا زى اللى قبلها علشان السكة مش كويسة».
وبرر «عبدالحميد» استمرار شكاوى الركاب من عدم انتظام مواعيد الترام، قائلاً: «التأخير مش من السائقين زى ما الناس بتقول، لكنه بسبب وجود إشغالات كثيرة فى مساره فى بعض الأحيان، وداخل حرمه فى أحيان أخرى، خصوصاً الأكشاك والباعة الموجودين فى محطة مصر والوكالة ومحرم بك، بالإضافة إلى مضايقات وبلطجة سائقى المشاريع خلال الطريق طول اليوم». واستطرد: «معظم عربات ترام المدينة المفصلى يرجع عمرها إلى سنة 1933، وكانت تعمل حينئذ فى ألمانيا لمدة 10 سنوات ثم انتقلت إلى الدنمارك واستمرت فى العمل مدة مماثلة، حتى تم استيرادها من هناك فى السبعينيات، ومنذ ذلك الوقت لم نسمع أو نَرَ تجديداً ولا أى تحديث تم فيها».
ترام «الرمل»: واجهة حضارية «نظامية»..عمرها 150 عاماً
تحول ترام الرمل «الأزرق»، الذى تأسس عام 1860 بخبرة إنجليزية وسواعد مصرية، إلى واجهة حضارية وأحد أبرز المعالم السياحية التى اعتاد ضيوف «الثغر» على زيارتها واستخدامها فى جولاتهم اليومية، داخل جزء كبير منها يمتد من محطة الرمل، فى وسط المدينة حتى منطقة فكتوريا شرقها، هذا بالإضافة إلى مكانته المعروفة كوسيلة مواصلات جماعية رخيصة، لدى كثير من سكانها، خاصة طلبة المدارس والجامعات.
تلك المكانة والأهمية التى حصل عليها «ترام» الرمل خلال الأعوام الأخيرة، لم تأت بالمصادفة حسبما جاء على ألسنة العديد من رواده الدائمين لـ«إسكندرية اليوم».
داخل إحدى العربات التى حطت رحالها فى محطة الرمل منذ دقائق قليلة استعداداً لبدء رحلة أخرى، جلس محمد الشربينى، شاب ثلاثينى، يعمل موظفاً بإحدى الشركات، إلى جوار إحدى النوافذ المطلة على الميدان مستغرقاً فى لحظة تأمل للأجساد التى تتحرك أمام ناظريه وسط الميدان جيئة وذهاباً. مجرد لحظة لم يقطعها سوى اقترابنا منه وسؤالنا له حول رأية فى الوضع الحالى للترام.
وعقب نظرات زائغة غلفها شعور واضح بالتردد ظهر جلياً فى عينيه السوداوين الضيقتين، أجاب «الشربينى» وسط ابتسامة باهتة ارتسمت على وجنتيه قائلاً: «الترام دلوقتى بقى مزار سياحى ووسيلة مواصلات مميزة فى نفس الوقت، والوضع ده ممكن يكون نتيجة منطقية للتحديثات اللى كنا بنشوفها خلال الفترة اللى فاتت».
وأضاف الشربينى: «اعتدت على ركوب الترام منذ طفولتى، لدرجة أننى أحفظ كل خطوطه ومواعيده ولى فيه ذكريات كثيرة منذ أيام الجامعة، وحالياً أستخدمه يومياً فى الذهاب إلى عملى لأنه رخيص وقريب من البيت».
وأرجعت نهى أحمد، طالبة جامعية، تفضيلها استخدام الترام خلال ذهابها وعودتها من مجمع الكليات يومياً، إلى شعورها الدائم بالأمان طوال رحلتها التى لا تستغرق سوى 10 دقائق، بالإضافة إلى ارتفاع مستوى النظافة فى العربات والمعاملة الجيدة من غالبية المحصلين الذين يعملون على الخطوط- بحسب زعمها.
وقالت سهير عزام، موظفة، إن حالة محطات الانتظار المنتشرة بطول مسار الترام جيدة للغاية، لأنها جديدة والاهتمام بصيانتها وتطويرها مستمر، وأضافت: ده بنشوفه وبنلاقيه قدامنا فى كل محطة بنعدى عليها».
الوضع لم يختلف كثيراً لدى العاملين على هذه الخطوط عما استقرت عليه آراء الركاب، حيث يقول سلامة محمد، أحد السائقين، إن الترام أصبح وسيلة ترفيهية وخدمية فى نفس الوقت، نظراً لأن مساره مستقل بذاته، وله حرم خاص حيث يسير على «فلنكات» تجعل تعطله أو تسببه فى الحوادث أمراً صعباً- بحسب وصفه، «يعنى متلاقيش فيه إشغالات ولا بياعين زى ترام المدينة».
وأضاف سلامة: «لو هتقارن بين وضعنا هنا ووضع زملائنا فى ترام المدينة، يبقى هتظلمهم، لأننا هنا فى نعيم وراحة بالنسبة لهم، ويمكن ببنواجه تحرشات من بعض أطفال الشوارع فى بعض المحطات لكنها قليلة وتعودنا عليها، وتحديداً فى محطات الشبان المسلمين وكوبرى الجامعة وسيدى جابر». وتابع: «الترام هنا ماشى بنظام، مش ماشى بالبركة، وكمان له بداية ونهاية معروفة، لأنه عبارة عن خطين 1 و 2 وحالة عرباته جيدة وحديثة». وحول علاقة العاملين على الخطوط بجمهور الركاب أكد أحمد محروس، محصل، أنها علاقة قائمة على الاحترام المتبادل فيما بينهم لأن المستوى المعيشى- بحسب قوله- لركاب ترام الرمل أفضل إلى حد ما، كما أن درجة التعليم المرتفعة فيما بينهم تجبرك على التعامل معهم باحترام، «وطبعاً مش كل الناس زى بعض».