الوطن المستباح

حسن حنفي الأربعاء 24-02-2016 21:34

«الوطن المستباح» لفظان نقيضان لا يجتمعان. فالوطن حبيب إلى القلب. والاستباحة كريهة إليه. وشبهت الحبيبة بالقلب. ونودى عليها «يا قلبى». والاستباحة فى الثقافات كريهة لأنها اغتصاب وعنف وفرض لإرادة الغير على إرادة الأنا. الوطن لا يكون إلا حراً كريماً. والاستباحة تقاوم وتصد مثل الاستعمار والاحتلال وخرق للحرمات الفردية والاجتماعية. فكيف يُجمع بين اللفظين المتعارضين فى مفهوم واحد لا يجتمعان إلا بمنطق «إما... أو».

تاريخياً لما سقطت الإمبراطورية العثمانية قسمت القوى الاستعمارية وقتئذٍ ممتلكاتها إلى دول طبقاً لمكونات تاريخية أو جغرافية أو سكانية وطبقاً لمفهوم الدولة الغربى بعد سقوط الإمبراطوريات النمساوية والمجرية وغيرها فيما يُعرف بمعاهدة سايكس بيكو. ثم قامت حركات التحرر الوطنى لطرد المستعمر فى كل أرجاء الوطن العربى والعالم الإسلامى حتى تصبح الدول الوطنية دولاً ذات سيادة فعلية وليست مجرد أشكال سياسية. ونشأت حركات المقاومة حتى طردت القوات الأجنبية، واستقلت الدول، وتحول رؤساء الحركات الوطنية إلى رؤساء لها بفعل المقاومة والتاريخ.

ثم سرعان ما ضعفت هذه الدول الجديدة لما طرأ عليها من نظم عسكرية استبدادية أو فساد اقتصادى. كما نشبت بين كل دولة وجيرانها مناوشات عسكرية، خلافاً على الحدود، مثل: بين المغرب والجزائر على واحدة تندوف، وليبيا ومصر حول قبائل أولاد على، ومصر والسودان حول حلايب وشلاتين ووادى حلفا، والإمارات وعمان حول واحة البريمى، وقطر والبحرين حول بعض جزر الخليج، والكويت والسعودية حول منطقة صحراوية شاسعة وضعت تحت سلطة الأمم المتحدة، والكويت والعراق حول آبار النفط شمال الكويت وجنوب العراق، ومصر وفلسطين حول مثلث العوجة، وسوريا وفلسطين حول وادى لحمة. وبدأت استباحة الوطن العربى باحتلال جزء من فلسطين، وطرد شعبه خارج أرضه، وإسكانه مخيمات فى الدول المجاورة. ضاع نصف فلسطين فى 1948، واحتل النصف الآخر فى 1967. وزرعت كلها مستوطنات حتى لم تبق فيها إلا جزر عربية منعزلة، مواطنون من الدرجة الثانية كالمواطنين السود فى الولايات المتحدة قبل إعلان حقوق الإنسان أو فى جنوب أفريقيا قبل الاستقلال. ويستمر استباحة الوطن من الخارج، إسرائيل التى لم تكن قد تكونت بعد، ثم العدوان الثلاثى على مصر 1956 رد فعل على تأميم قناة السويس. وبعد هدوء نسبى بعد انتصار 1973 تعود الاستباحة من الخارج بعد ثلاثين عاماً تقريباً بالعدوان الأمريكى المباشر على العراق. وفى الربيع العربى استبيحت سوريا من الجيش بدعوى تطهيرها من العنف وداعش. وتؤيد مصر التدخل الروسى فى سوريا التى كانت حبيبة مصر فى الستينيات وتتخلى عن الثورة العربية السورية والشعب السورى لحساب المصالح وموازين القوى، وبدل أن كانت مصر داعية للسلام أصبحت تترقب الحرب العالمية الثالثة. كما استبيح اليمن. وضربت قوات حلف شمال الأطلنطى ليبيا بدعوى تأييد الثورة الشعبية حيث الصراع على النفط. وتغزو روسيا سوريا حبيبة قلبها.

وقد تكون الاستباحة من الخارج عندما يكون الوطن قوياً على الحدود مثل مصر. فتنشأ جماعات العنف مثل القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية مثل داعش فى سيناء شرقاً أو فى ليبيا غرباً من أجل إشغالها من الداخل. ويختلط الحابل بالنابل، القاتل بالبرىء. فتنشغل مصر بحدودها. وتحارب حروب غيرها كما يفرض ذلك عليها الواجب الوطنى. قطع الأطراف فى الخارج وعلى الحدود، وخنق الأنفاس فى الداخل فينهار الجسد كله وبالتالى تتفتت المنطقة كلها. فلا قلب يسندها ولا أطراف تأخذ بها. فإلى متى يظل الوطن مستباحاً؟ إلى متى يظل محاصراً من كل اتجاه لا مخرج منه إما القفز على السور أو الصراخ أو الرضا بالقضاء وهو جزء من الثقافة الشعبية؟

قد تدب الروح فى الجسد العربى. ففى لحظات الهزيمة يبرز النصر. يتم بعث الجسد العربى عندما يصل إلى القاع من مصر ربما على يد أفغانى جديد وتلميذه عرابى وجماعته، عبدالله النديم ومحمد عبده وتأسيس الحزب الوطنى ومصطفى كامل. جماعة مثل الضباط الأحرار فى الأربعينيات نواة ثورة 23 يوليو 1952 وهو الذى وضع شعار «مصر للمصريين» وقال: «عجبت لك أيها الفلاح تشق الأرض بفأسك ولا تشق قلب ظالمك»، وعندما واجه عرابى الخديو توفيق بقوله «إن الله خلقنا أحراراً ولم يخلقنا تراثاً أو عقاراً. والله لا نورث بعد اليوم». وسرت الروح فى «لو لم أكن مصرياً لوددت أن أكون مصرياً» حتى ثورة 1919 وزعمائها وبناء الجامعة المصرية ووضع أسس بنك مصر. وانبعثت الروح فى المغرب العربى بطوله على يد عبدالقادر الجزائرى وعبدالكريم الإبراهيمى وعمر المختار ومالك بن نبى عسكرياً وثقافياً ضد الاستعمار الفرنسى. وانبعثت الروح فى الشام الكبير، سلطان الأطرش وعزالدين القسام، وخروج عثمان دنقة وحزب الأمة فى السودان والأئمة فى اليمن ضد الاستعمار البريطانى قبل تكوين مجموعات الضباط الأحرار فى الأربعينيات. ثم تتجسد هذه الروح الجديدة فى شخص واحد مثل عبدالناصر ليحدث رد فعل فى مسار التاريخ. فيوحد الأوطان المتجزئة ويوزع الثروات المتراكمة فى أيدى القلة، ويحرر باقى الأوطان المحتلة.

وما حدث فى الوطن العربى الواحد قد يحدث فى الأوطان العربية كلها. فصلاح الدين الأيوبى ليس مصرياً ولا كردياً إنما هو مسلم يحرر البلاد الإسلامية من الغزوات الصليبية التى وصلت إلى القدس. ويحدث ذلك فى العالم الإسلامى كله مثل محمد على جناح فى باكستان بعد أن عبَّر محمد إقبال عن روحها. كما قام بهذه المهمة مصطفى كمال أتاتورك فى تركيا بعد أن وصلت اليونان إلى أبواب أنقرة.

ويحدث ذلك عبر التاريخ. فقد جسَّد ديجول روح فرنسا بعد هزيمتها أمام ألمانيا قائلاً «أنا فرنسا»، «فرنسا لا تدخل الأكاديمية الفرنسية»، معيداً ذكرى نابليون وتجسيده الثورة الفرنسية خارج حدودها. فانبرى الفلاسفة الألمان مثل فشتة يجسدون روح ألمانيا، وهيجل لتجسيد وحدتها. وضع فشتة فلسفة للمقاومة فى «نداءات إلى الأمة الألمانية». وأراد محمد على إحياء الإمبراطورية العثمانية ومركزها مصر فتكالبت الدول الغربية عليه. وحطمت فرنسا وإنجلترا أسطوله فى البحر المتوسط. وظل مشروع محمد على فى ذهن مصر والعرب حتى أحياه عبدالناصر من جديد باسم القومية العربية. فمن يدرى بعد تحطيم الجيوش العربية وغزو أراضيها أن تنبعث الروح من جديد فى شخص أو فى جماعة أو فى دولة وطنية تصحح للتاريخ مساره. تبعث فى الجسد العربى حياة بعد أن شارف مرحلة السكون الأبدى.