د. محمد المخزنجى يكتب: غباء التذاكى

محمد المخزنجي الأربعاء 24-02-2016 21:38

عقِب نشر مقالى الفائت «تخريم العقول»، جاءنى صوت الدكتور عبدالجليل مصطفى عبر الهاتف، غمرنى الدكتور عبدالجليل، أستاذ القلب والوطنية النقية والاستقامة الإنسانية، بكرم رضاه عما أكتب، ثم نبهنى إلى ما لم يظهر فى مقالى عن تاريخ «جوزيف كيندى» والد الضحية روزمارى كيندى، الملوَّث بتكوين ثروة هائلة من تهريب الخمور إبان فترة حظرها فى الولايات المتحدة، وعلاقته بالرئيس الأمريكى روزفلت التى تفوح برائحة فساد توظيف المال فى السياسة. وما إن انتهت المكالمة، حتى شرعت فى تأصيل إشارته، وسرعان ما تحولت الإشارة إلى ملف عن الرجل، جعلنى أشعر بالندم كثيرا حيال تعاطفى المفرط معه كأب، بينما هو أب غير سوى، أب سيكوباتى.

جوزيف كيندى الأب السيكوباتى الذي ساق ابنته إلى مصير الموت فى الحياة تنتهى حياته مشلولا أبكم على كرسى متحرك مثلها

والسيكوباتية Psychopathy نوع من الاعتلال النفسى للشخصية، من أفدح وأصعب الاضطرابات النفسية فى التشخيص، وتحديدا فى الطيف «المُتخفى» منه، والذى حدا بأستاذين فى الطب النفسى من جامعة هارفارد أن ينشرا كتابا عنه، سمياه «سيكوباتى تقريبا» Almost a Psychopath، ويشير إلى هذه النوعية من السيكوباتيين الذين يُظهرون قليلا من أعراض هذا الاعتلال النفسى، لا يكفى لتلبية معايير التشخيص الكامل لاعتلالهم الذى يخفيه «ذكاؤهم» وراء واجهة تبدو طبيعية، بل كثيرا ما تكون مهيبة وجذابه، بالرغم من وضوح معايير تشخيص سيكوباتيتهم، المتضمِّنة: حب الذات الأنانى العدوانى، أو «النرجسية العدوانية»، والاندفاعية فى السلوك، والافتقار إلى حس التعاطف مع الغير، والتلاعب بالناس عبر البلطجة أو الخداع أو كليهما، وهم فى كل ذلك يعتبرون أنفسهم أشخاصا استثنائيين معفيين من المساءلة القانونية، مع ميل ملحوظ للكذب، بل الكذب المُحكَم. فهل كان جوزيف كيندى من هذا النوع السيكوباتى المموه، السيكوباتى «الذكى»؟ وأى ذكاء هذا، لرجل ساق ابنته الجميلة بسيطة التفكير وصادقة الاحتجاج، إلى مقصلة السيكوباتى الواضح والقارح، المحتال، النرجسى الخيلائى، السادى، الدكتور والتر فريمان، الذى خرَّب مخها بثقة متغطرسٍ جهول، بليد الحس، ميت الضمير؟.

«آثام الأب»، كتاب يكشف خبايا جوزيف كيندى فى قنص النفوذ والفلوس

لقد كوَّن جوزيف كيندى بالفعل، وبالتفاف ماكر على القانون، ثروة كبيرة من تهريب الخمور أثناء حظرها فى الولايات المتحدة (1920 ـ 1933)، ومن هذه «الخميرة» الملوثة ــ شأنها شأن المخدرات فى شحنات الخشب وأكياس الهيروين فى بودرة السيراميك ــ بدأ اقتحاماته لعالم الاستثمار والسلطة، ووطَّد صداقته النفعية بابن الرئيس روزفلت، ودعم بسخاء حملة روزفلت لفترة رئاسية ثانية، فصار سفيرا للولايات المتحدة فى بريطانيا، وبعد ذلك أدار ظهره لحليفه عندما أراد روزفلت الترشح لفترة رئاسية ثالثة، لا لأنه كان ديمقراطيا نقيا، ولكن لأنه كان طامحا فى دخول السباق الرئاسى ولم يعقه إلا تورطه فى تصريح ضد بريطانيا فى مواجهة النازى أفقده أى احتمال للنجاح. وبعد أن تبدد طمعه فى موقع الرئاسة الأمريكية راح يُعدُّ ابنه الأكبر «جوزيف» للسباق الرئاسى، لكن هذا قضى نحبه فى حادث سقوط طائرته فوق القنال الإنجليزى عام 1944. وعلى الفور شرع فى إعداد الابن الثانى «جون»، الذى صار بالفعل رئيسا للولايات المتحدة عام 1960، واغتيل فى 22 نوفمبر 1963. فكان الثانى فى مسلسل كوارث السلالة التى أسسها جوزيف كيندى باندفاع سيكوباتى خفى، كشفته الأيام وفضحه اعتراف أحد قادة المافيا قبل إعدامه بأن ذلك الرجل « المهم» كان ضالعا فى شراكة قذرة مع هذه العصابات الإجرامية، وهو ما أورده كتاب «خطايا الأب» لجوزيف كيسلر.

من كل ذلك تظهر شخصية جوزيف كيندى السيكوباتية، المتسرعة فى جنى المكاسب من أى نوع، دون أية روادع أخلاقية. رجل كهذا وقد اعتاد أن يربح بسرعة، وبسرعة تمنحه الأرباح نفوذا، لم يكن ليصبر حتى على ابنته، فتعجل فى إخضاعها لعملية تُهدِّئها، أو تهدها، حتى لا تتسبب فى فضيحة يتوهمها تهز عرش ثروته ونفوذه وطموحه السلطوى. والأغلب أنه فُجِع فيما صارت البنت إليه، فهو فى النهاية أب، لكنه أب سيكوباتى، ككل سيكوباتى يهرب من إدانة نفسه، فامتنع عن زيارتها لعشرين سنة كاملة، برغم أنه لم يُقصِّر فى الإنفاق على رعايتها فى ذلك القبر الذى دُفِنت فيه حية. ومن مفارقات الأقدار، أن يصاب هذا الأب بسكتة دماغية عام 1961 تركته عاجزا عن النطق والحركة إلَّا على كرسى متحرك، تماما كابنته التى نحرها على مذبح تسرُّعه وطموحه. تسرع وطموح غباء من يوصفون بأنهم «أذكياء». فجوزيف كيندى خريج هارفارد، وقنَّاص الثروة والسلطة والنفوذ، كان «ذكيا» بالمعيار المُجرَّد للذكاء، لكنه غبى الروح، أو «غبى العواطف» تبعا لمدخل نفسى شديد الأهمية فى إعادة تعريف الذكاء قدمه عالم النفس «دانيال جولمان» فى كتابه المهم «ذكاء المشاعر». ولعلى أضيف هنا بُعدا آخر للذكاء الحقيقى أسميه «ذكاء التبصُّر» أو ذكاء البصيرة، الذى لا يكتفى فى تقدير الأمور بالنظر «تحت قدميه»، بل يمد شعاع نظرته إلى بعيد، إلى الأفق، وفى كل الاتجاهات كلما أمكن.

جوزيف كيندى لم يكن ينظر إلَّا تحت قدميه وهو يعالج موضوع ابنته، ولم يكن يتطلع إلَّا إلى هدف فى اتجاه أنانى واحد يُعزِّز مطامحه ومطامعه، لهذا استسهل واستعجل «تخريمة» فريمان فى مخ ابنته، لتُزيح ما أخافه من فضيحة محتملة من جمالها الأنثوى الناضح وبراءة عقلها البسيط، وقد كان ممكنا أن يلجأ معها إلى اختيار آخر، أكثر مرونة وأطول بالاً وأكثر تواضعا، كأن يزوجها بأول من يروق لها وتروق له، حتى لو كان ابن جناينى فى حدائق قصره، خاصة أن هذه البنت كما أمثالها، لا تدخل المظاهر الاجتماعية فى حبها للناس، كما أن مسحة ضعف ذكائها كانت مكتسبة من نقص تروية مخها بالأكسجين أثناء ولادتها، مما يُرجِّح أنها كانت ستهب الدنيا أولادا وبنات جميلين مثلها وغير منقوصى الذكاء، لكن الأب لم يكن مهيأ للتنازل عن مصاهرة الثروة والنفوذ، ويدرك أن ابنته لم يكن متوقعا أن يتقرب منها أحد أبناء ذوى الثروة والنفوذ. كما لا يُستبعَد أنه كان يخاف من عفويتها التى يمكن أن تخدش صورة «السلالة»!

لقد جعلتنى آثام تخريم الأدمغة هذه، وما وراءها، وما يوازيها، أو يُناظرها، أستعيد يقينى فى أن المجانين الحقيقيين، والمجرمين الحقيقيين، هم خارج المصحات والسجون، ووجدت نفسى مدفوعا لإعادة قراءة كتاب كولن ويلسون «التاريخ الإجرامى للجنس البشرى»، الذى قرأته منذ سنين ونسيت دقائقه، وهالنى أن تطالعنى فى أول الكتاب الذى ترجمه الدكتور رفعت سيد على: «إن ذكاء البشر نتج عنه بعض الجنوح وعدم التوازن، كما نتجت عنه مخاوف ضيقة دفعت إلى حسابات مستمرة وقسوة متحجرة بلا رحمة، تدفع البشر إلى انتهاج الطرق المختصرة لتحقيق الرغبات، أى إلى ارتكاب الجريمة». رؤية ثاقبة بلا شك، لكننى أفضل ـ تبعا لكل ما سلف ـ تغيير تعبير «الذكاء» فيها إلى «التذاكى»، الذى هو قرين غباء المشاعر، وقصر النظر، وأحادية الاتجاه. ومن ثم، لا يكون إلا تذاكيا للغباء، وما أكثر ما يُحيط بنا - هنا والآن- من مثل ذلك التذاكى!

حجر الحماقة ولوز الجنون

فى بحثى عن جذور عمليات تخريم الأدمغة اختصاراً واستسهالاً لعلاج الجنوح، لم تقنعنى نسبتها إلى عمليات التربنة التى يزعم البعض أنها مورست منذ 8000 سنة! وفضلت أن أجد ما يوثّق تاريخها بشكل ملموس، فعثرت على لوحة للفنان الهولندى «هيرونيموس بوس» تعود إلى القرن الخامس عشر، تُظهر طبيباً يقوم باستخراج ما أسموه «حجر الحماقة» أو «حجر الجنون» «stone of folly or «stone of madness من الدماغ، فقد كان ثمة اعتقاد شائع حينها بأن ذلك «الحجر» هو سبب الخلل العقلى، والاكتئاب، والبلاهة، وكانوا يعتقدون أن ذلك الحجر يمكن أن يختبئ فى أى مكان من الجسم، لكنه أكثر ما يكون فى الدماغ، مما كان يضطرهم لفتح الرأس لإزالة هذا الحجر، لإعادة العقل للمجنون، أو الحكمة للأحمق، أو البهجة للمكتئب.

ولم يكن «بوس» وحده هو الذى قدم مثل هذه الوثيقة، فثمة فنانون غيره عكسوا هذه الممارسة فى لوحاتهم، وتعود إلى القرن الثالث عشر دون أن يُعرف اسم مبدعيها. ومن لوحة بوس التى أسماها «انتزاع حجر الجنون» يمكننا استشفاف السخرية التى عبر بها عن هذه الممارسة، والتى لم تكن تتجاوز إحداث جرح فى فروة الرأس، لإسالة الدم والإيحاء باستخراج ذلك الحجر الذى لم يكن إلا إيهاماً يمكن غفران كذبته فى ضوء نواياه العلاجية ومحدودية العلم فى زمنه، وإن كان هناك احتيال ذو قناع دينى موروث من عصور الظلام الأوروبية التى ساد فيها الاعتقاد بأن أمراض النفس والعقل مرجعها شياطين تتلبس البشر، تبرر لجلادى المؤسسة الدينية تفسيخ بعضهم، وتغريق وتحريق آخرين. وما دام الحديث تطرق إلى الشياطين، فلابد أن نتوقع الشيطنة. وقد امتدت هذه الشيطنة، حتى القرن العشرين، بل حتى قرننا هذا، ولكن بأقنعة مختلفة!

جوزيف كيندى الأب السيكوباتى الذي ساق ابنته إلى مصير الموت فى الحياة تنتهى حياته مشلولا أبكم على كرسى متحرك مثلها

فى عشرينيات ذلك القرن، رصد التاريخ الطبى حكاية طبيب نفسى فى مستشفى «ترينتون» بنيو جيرسى، ظل لعدة سنوات يخلع أسنان المرضى النفسيين، ويستأصل طحالهم، ولوزاتهم، ومراراتهم، ليبرأوا من أمراض عقولهم. فقد كان ذلك الطبيب «هنرى قطن» Henry Cotton يعتقد أن أمراضهم العقلية مرجعها وجود بؤر ميكروبية فى أجسامهم تسمم عقولهم ولابد من استئصالها.

ومن العجيب أنه كان قد تدرب طبياً فى مستشفى جامعة «جون هوبكنز» تحت إشراف أحد علّامات الطب النفسى فى القرن العشرين بالولايات المتحدة، وهو الطبيب النفسى الأمريكى سويسرى الأصل «أدولف ماير»، الذى كان يحاول نبذ مبالغات البحث عن أسس عضوية محضة فى تسبيب الأمراض النفسية، وكان يركز كثيرا على تأثير الكرب والشدائد على نفس الإنسان. كان المُعلِّم واسع الأفق، لكن تلميذه ضيّقها حد الخبل. فما إن انفرد الدكتور قطن بمصحة ترينتون حتى شرع فى تطبيق فرضيته القائلة بضرورة استئصال البؤر الميكروبية المسببة للأمراض العقلية، حتى عندما كانت الفحوصات وصور الأشعة لا تُظهر أثراً لمثل تلك البؤر، كان يصر على وجودها وإجراء جراحات لإزالتها.

وقد تقصى الباحث فى التاريخ الطبى وعلم الاجتماع الدكتور «أندرو إسكل»، من جامعة «يال»، وقائع ممارسات الدكتور قطن العجيبة تلك، فى كتابه الصادر منذ عامين بعنوان «منزل الجنون ــ حكاية مأساوية لهوس تضخم الذات فى الطب الحديث»، وقد أبدى الدكتور إسكل استغرابه من أن ممارسات الدكتور قطن ظلت تجد مناصرين لها فى الدوائر الطبية المُفترض رقيها، ولم يوقف هذه الممارسات «الوحشية» عند حدها غير سيل الانتقادات الشعبية فى المجتمع المحلى بنيوجرسى. وعندما تكونت لجنة تحقيق فى أواسط العام 1925، لم يستطع قطن إثبات أى معدلات لنجاح فرضيته وتطبيقاتها الجراحية على المرضى النفسيين. فى تلك الأثناء بلغت مسامع أستاذه البروفوسير ماير بعض ما يجرى فى مصحة ترينتون، فأرسل أحد معاونيه من الأطباء النفسيين الشباب ليستكشف الحقيقة، وبرغم أن التحقيق لم يكُن فى صالح قطن، إلا أن ماير فضَّل إخفاء التقرير! وظل قطن فى مكانه يمارس عملياته الترويعية حتى مات عام 1933. وحتى بعد موته ظل الأطباء الجراحون يخفون ما أجروه من عمليات بإحالة من الدكتور قطن بغرض العلاج النفسى. بل إن خلع الأسنان لأسباب نفسية ظل ساريا فى هذا المستشفى حتى عام 1960. ومن الطرائف السوداء للدكتور قطن أنه كان يعالج فتاة عمرها 18 عاما، بدأ بخلع أضراسها فلم تُشفَ، استأصل لوزها فظلت على حالها، قطعوا التصاقات فى أمعائها فلم تتغير، ومن ثم أكمل خلع كل أسنانها وأرسلها إلى بيت أهلها مؤكدا أنها «قد شُفيت»، برغم أنها ظلت مختلة العقل حتى ماتت!.

فى العام 1935 ظهر على مسرح تخريم الأدمغة مهيب فخيم، طبيب ذو سمعة دولية فى الطب كما فى السياسة، وهو البرتغالى الدكتور «إيجوس مونيز»، الذى يُعتبر «رائدا» لعمليات فصل أو بَضْع الفص الجبهى من المخ، وهو الذى صك للفرع الجراحى الجديد الذى دشنه بعمليته وسماه «الجراحة النفسية» Psychosurgery. ولا يُعرف ما الذى دفع مونيز للإقدام على هذه المغامرة المنذورة للفشل، خاصة أنه كان طبيبا مرموقا فى مجال الأعصاب، وتم ترشيحه لجائزة نوبل مرتين لجهوده فى تطوير طريقة لتصوير شرايين المخ، كما أنه كان لاعبا عالميا فى السياسة، فقد كان سفيرا للبرتغال فى إسبانيا خلال الحرب العالمية الأولى، وممثل البرتغال فى مباحثات ما بعد الحرب. ولعل كل ذلك هو ما دفعه إلى مغامرة إجراء جراحات فصل الفص الجبهى من المخ بدعوى العلاج النفسى للمجانين والمجرمين، ليحصل على جائزة نوبل ويستكمل مسوِّغات أبهته! ففى 12 نوفمبر 1935 قام مونيز بإجراء أول عملية فصل للفص الجبهى لمريضة عقلية برتغالية فى مستشفى سانت مارتا بلندن، برغم أنه كان محدود الخبرة فى الجراحات العصبية! كما كانت يده تعانى تشوهات بسبب إصابته المزمنة بداء النقرس!

هدفت عملية مونيز، كما عمليات فصل الفص الجبهى للمخ السابقة واللاحقة، إلى قطع الوصلات العصبية بين الفص الجبهى وباقى أجزاء المخ الرئيسية، عن طريق فتحة مستديرة فى عظام الجمجمة يحقن خلالها مادة الإيثانول لتدمير هذه الوصلات من وإلى لحاء الجزء الأمامى من الفص الجبهى. وقد وصف مساعد مونيز العملية بأنها كانت ناجحة وأن المريضة تحسنت، برغم أنها ظلت حتى نهاية عمرها نزيلة مستشفى الأمراض العقلية! وبعد هذه العملية قام الدكتور إيجوس مونيز ومساعده نفسه، بإجراء عشرات العمليات لفصل الفص الجبهى فى أمخاخ سجناء جنائيين ومرضى نفسيين وعقليين، ثاقبا جماجمهم فى مناطق مختلفة لحقن الكحول داخلها لأداء مهمة فصل الوصلات العصبية، واعتبر إيجوس أن كل العمليات التى أجراها كانت ناجحة، بدليل أن المرضى الذين خضعوا لها «لم يمت منهم أحد»! برغم أن جميعهم عاشوا بقية أعمارهم مع آثار جانبية تراوحت ما بين عدم التحكم فى الإخراج، وتضرُّر الإبصار، والعته، والتبلد، والإحساس الدائم بالجوع. لكن مؤسسة نوبل كانت قد استبقت ظهور هذه الآثار جميعا، ومنحت «إيجوس مونيز»، جائزتها فى الطب عام 1949. ومن ثم، صارت عملياته صرعة «الجراحة النفسية» فى العالم، وكان والتر فريمان أحد تلاميذه عن بعد، وطور العملية بابتكار أخرق وصفته فى المقال السابق، فأضاف إلى جريمة تخريم مونيز للأدمغة إجراماً جديداً، وأكثر من ثلاثة آلاف ضحية، بينهم روز مارى كيندى..

بعد اتضاح الآثار الجانبية الفادحة لجراحات فصل الفص الجبهى، سواء بطريقة مونيز أو بطريقة فريمان أو غيرهما، مُنِع إجراؤها فى الاتحاد السوفيتى عام 1950 وفى ألمانيا واليابان عام 1970، ثم صارت محظورة عالميا، لكن بعد أن خضع لإجرائها قرابة 70 ألف إنسان ــ أكثرهم فى الولايات المتحدة وأوروباـ فى الفترة ما بين عام 1944 و1966، وكان معظمهم من النساء صغيرات السن والأطفال المتخلفين عقليا، أى أنهم خضعوا لهذه الجراحة على الرغم منهم. كما أن هذه الجراحة جُرِّبت فى عدد من المجرمين وزُعِم أنها هدَّأتهم، مما جعل مونيز وصاحبه يشعران بالرضا والانتفاخ، بل زعما أن هذه الجراحة «أدت إلى خفض الخصائص الإجرامية بشكل كامل». كان الكذب واضحاً، وما دام الكذب موجوداً، فلابد أن نبحث عن وجود جريمة وراءه ومُجرمين، خاصة فى أمر جلل يتعلق بأدمغة بشر فى أضعف حالات الوجود الإنسانى، وهم المرضى العقليون، الذين ينهض تشخيصهم على قاعدة فقد الاستبصار، ومن ثم عدم وعيهم بما يُراد لهم ويُراد بهم.

كانت تلك جميعها جرائم فاحشة لتخريم الأدمغة واغتصاب العقول، الآن توقفت، لكن هناك جرائم مناظرة لها لاتزال تقع، تستلزم منا لتحديدها وإيقافها: عمق التفكير، وشجاعة التدبير.

إصلاحها ضرورة وهدمهــا إجـرام

بتأمل بعض الصور المنشورة مؤخراً لرقيب الشرطة المدعو «مصطفى فيتو» قاتل ضحية الدرب الأحمر، يستطيع أصغر طبيب نفسى مبتدئ أن يشخصه ضمن الفئات التى لا ينبغى أن يُصرَّح لها بحمل السلاح، وتشخيصى المبدئى يقول إنه «نرجسى عدوانى»، وهذا التشخيص بالمناسبة لا يعفيه من عقوبة القتل الذى ارتكبه، كونه غير «فاقد للاستبصار»، ولعل هذه اللمحة على إيجازها، تشير إلى خطوة أولى فى آلية تنقية جهاز الشرطة من أفراد تشكل اضطرابات شخصياتهم خطراً على الغير، وعلى جهاز الشرطة الذى أعتبر أن من تذاكى الغباء أن يدعو البعض ـ ولو بطرق التفافية ـ إلى هدمه كله، وتجريمه كله، لأن ذلك نوع من «تخريم الاستسهال والاستعجال»، المتصِف به تذاكى الغباء الذى لا يستبصر بالعواقب.

وفيما يخص ما يسمى «دولة أمناء الشرطة»، وهو تعبير تعميمى جائر يكتفى بالنظر تحت الأقدام، نجد أن عددهم يُقدَّر بـ 320 ألف فرد، مُشكِّلا أضخم قطاعات المؤسسة الشرطية، ومن الجنون والظلم والجهالة أن يطالب البعض برميهم جميعاً فى بئر التقاعد، ولو طبقنا معايير الطب النفسى، الذى يقول بأن عدد السيكوباتيين المتخفين هو 5 ـ 15% فى المجتمع الأمريكى (كمثال) تبعاً للدكتور رولاند سكوتن أستاذ الطب النفسى فى هارفارد صاحب كتاب «سيكوباتى تقريبا»، أو أن عدد السيكوباتيين الواضحين فى التعداد العام للمجتمع هو 1% تبعا للباحث فى علم نفس الإجرام الدكتور روبرت هار، فإن من ينبغى استبعادهم من أمناء الشرطة، أو حرمانهم من حمل السلاح، لن يتجاوز نسبة مئوية محدودة، قد لا تزيد على بضعة آلاف، وهذا ينبغى أن يتم مهما كان ثمنه، إنقاذاً ليس للمجتمع وحده، بل لمؤسسة الشرطة التى أعتبر أن شمول كل أفرادها بالتجريم، تمهيدا للتحطيم، هو إجرام فى حق المجتمع من نوع ما يرتكبه أصحاب التذاكى الغبى.

وقد قرأت كتابات يصفق لها البعض لإعلائها نبرة تعميم تجريم الشرطة المصرية، وأنا فى غنى مطمئن عن هذا التصفيق التافه، الذى هو فى أفضل صوره فوضوى وعدمى ومجانى، وفى أوجزها تذاكيا للغباء الذى يختصر السُبل إلى الإجرام صغر أو كبر. فإصلاح شرطتنا ضرورة، لكن تدميرها جريمة كبرى.

وبقدر ما أدعو إلى أقصى عقوبة للآثمين من تلك المؤسسة وليس آخرهم «مصطفى فيتو»، أُحيى ككاتب مصرى المنضبطين المحترمين فيها، قلّ أو كثر عددهم، ضباطاً وأمناء وجنوداً، الذين يؤدون مهنة ربانية بمقاييس سوية الفطرة فى كل خَلقِه ومخلوقاته، وأطالبهم بأن يدافعوا عن سويتهم ضد المنحرفين والفاسدين وغير الأكفاء فى مؤسستهم، كبروا أو صغروا. فهذا حقهم أمام زوجاتهم وأمهاتهم وأولادهم، خاصة وهم مُستهدَفون، ومشاريع شهداء وضحايا، لكل أنواع الإجرام، الغبى، والمتذاكى.