تأملات في بلد الغبار

جمال الجمل الثلاثاء 23-02-2016 22:13

(1)
تحت القناع الرسمي للوزير بطرس غالي كانت هناك نظرة معارض يرى الأشياء بطريقة نقدية، وتحت قناع الدبلوماسي كان هناك وجه المشاكس المتمرد الذي يريد تحطيم الصورة النمطية التي يحاصره فيها الأخرون، وتحت قناع الأكاديمي كانت هناك روح أديب ونظرة فلسفية تجلت في الكتاب الثالث والأخير من مذكراته «بانتظار بدر البدور»، حتى أن ومضات الصراحة والتأمل والتمرد في الكتاب، كانت تصل أحيانا إلى ذروة غير واقعية من الصدام والبوح والاستكشاف البعيد عن أي حسابات، حتى أن هذه اللحظات «التأملية» كانت أحيانا تقف في وجه اللحظات الواقعية والمواقف الرسمية التي أنفق غالي ثلثي عمره فيها.

(2)
ربما كان هناك تأثير للكتاب الأمريكى شارلى هيل الذي صاغ الكتاب وأضاف للأسلوب الكثير من الجرأة التي تتميز بها مذكرات المشاهير الأمريكيين والأوربيين عموما، وربما كانت هناك لمسات أدبية تميزت بها الترجمة الراقية التي قدمها اثنان من الاكاديميين اللبنانيين البارزين: جان جبور الأستاذ بقسم اللغة الفرنسية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية ببيروت، صاحب كتابى «النظرة إلى الآخر في الخطاب الغربى»، و«الشرق في مرآة الرسم الفرنسى- من القرن 19 حتى القرن العشرين»، والناقدة الأديبة زهيدة جبور أستاذة الأدب الفرنسى في الجامعة اللبنانية صاحبة كتاب «التاريخ والتجربة في»كتاب لأدونيس«.. لكن هذه الجهود الإضافية لم تكن لتؤثر لو لم تكن هناك مادة وروح ورغبة في تقديم هذه الحالة التأملية التي أراد غالى أن يعلنها، ومشاكسات التمرد التي تعمد الجهر بها من غير حساسية، كأنه يستعيد اسطورة سيزيف قاصداً منذ سكنت خياله وهو لا يزال في مرحلة الصبا.


(3)
من منطلق التأمل والتمرد معاً، ظهرت جرأة الدبلوماسى العنيد، في وصفه لمصر بعدما عاد إلى القاهرة في العاشر من يناير عام 1997، لأول مرة بعد خروجه من الأمم المتحدة وبعد 20 عاما بالتمام والكمال من «مظاهرات الخبز»، جلس الرجل الخارج من المنظمة الدولية لتوه، يتأمل حاله وحال مصر في مشهد سينمائى مشحون بالدراما، فيقول: «وحيدا في مكتبى الكبير المطل على النيل الذي لا أسأم من النظر إليه.. هل ترانى أصبت بتركى القاهرة للإقامة في شارع جينومير رقم 34 في منفى باريسى جميل، وربما لإدارة منظمة دولية جديدة؟».

(4)
كان غالى يفكر في المرحلة المقبلة من حياته ويفتش عن «بدر البدور» الذي وعده به العراف الهندى.. هل هو في باريس والمنظمة الفرانكفونية؟ أم هنا في مصر بلد الغبار؟.
يناقش غالي نفسه قائلاً: «قد يكون وجودى هنا أكثر فائدة بالتأكيد.. هنا في أرض مصر حيث شاء القدر أن أولد، وحيث سأدفن في هذه الأرض العابقة بالذكريات والأساطير وبالرموز الخالدة المتروكة للغبار..».

(5)
هكذا تبدو مصر في عينى غالى «بلد تحت الغبار» لذلك يضيف: «قد تتلخص مهمتى بطريقة ما في النضال يوما بعد يوم ضد هذا الغبار الناشئ عن تحالف الصحراء مع البيروقراطية المصرية التي تعيد تجميع قواها دون توقف وتجتاح أرض مصر مع إطلالة موجات الحر الكبرى، حين تلف الشمس الجو باليباس، وتسحق الرمل، وتفتت الحجارة.
ويضيف غالى معبرا عن فوبيا الغبار التي تزعجه: «فى فترة ما بعد الظهر أمر بمرحلة من الإحباط. ربما بسبب الغبار الذي فتك بمكتبتى التي أهملتها طويلا، مرة بسبب حياتي في نيويورك، والآن من أجل باريس... إن التاريخ يثبت أنه لا يمكن لأمة أن تعيش دون أهداف كبرى. غداة الحرب العالمية الثانية، راح الشعب المصرى يحلم بكل ما هو ممكن: الحصول على استقلاله ورحيل الإنجليز، العمل على إزالة الاستعمار من العالم العربى ومن أفريقيا. وساد إحساس بأن إنشاء جامعة الدول العربية في القاهرة، ومؤتمر باندونج، وتأميم قناة السويس، وقيام حركة عدم الانحياز، وإنشاء منظمة الدول الأفريقية في أديس أبابا، هي محطات متقدمة، وانتصارات وخطوات واعدة للعالم الثالث المتصالح مع المستقبل.

(6)
وفى نظرة راديكالية يتقمص فيها خطاب المعارضة يقول: «لقد انتهى زمن الاستعمار، واستؤصل نظام الفصل العنصرى، وفقد»عدم الانحياز«مبرر وجوده بعد انهيار حائط برلين ونهاية الحرب الباردة، وتحولت الأمم المتحدة إلى سوق للأوهام. إلى ماذا نتطلع اليوم؟.. باسم أي شئ نعبئ جهودنا؟
لقد انكسر زخمنا، وليس باستطاعتنا أن نبتدع أفكارا جديدة. في بلدى، غمر الغبار كل شئ، حتى الأفكار. إننا نتخبط في كل يوم في وحول الحدث الآنى، دون تخطيط للغد. لقد أودعت الوحدة العربية على رفوف النسيان. وفلسطين المستعمرة والمضحى بها هي ذلنا اليومى وإقرار بتنازلنا. لم يبق إلا الأصولية الإسلامية، هذه الوهابية المستوردة من بلاد الخليج والتى يغذيها مال النفط. من الجمود إلى التقهقر، ليس هناك إلا خطوة واحدة. إنها العودة إلى القرون الوسطى، إلى ديانات الزمن الغابر التي تتغذى من الأضاحى الإنسانية والحرب. إنها دائما عود إلى بدء. أسترجع قصة سيزيف، هذه الأسطورة التي لا تبارح تفكيرى منذ سنواتى الأولى.
غدا، سوف أغادر مرة أخرى هذه الأرض الدهرية المسكونة بالنعيم وبالجحيم في آن. ولكن الرحيل لن يتمكن أبدا من تبديد شغفى بمصر التي أحملها معى أينما حللت.

(7)
هكذا تحدث بطرس غالي بصراحة نادرة عن أفكارنا التي يعلوها الغبار، وعن ذلنا اليومي الذي يسمى «فلسطين»، وعن خضوعنا للموجة الوهابية، وعن غياب الأهداف الكبرى، وانكسار الزخم، عن التخبط والأوحال التي تغرق حاضرنا، مسترجعا بحنين عجيب زمن باندونج وكتلة عدم الانجياز، وتأميم القناة، وتأسيس منظمة الدول الأفريقية، وحلم الوحدة العربية...
فأي نوبة من الصراحة تلك التي أصابت غالي وهو يناجي النيل في بلد الغبار؟!




جمال الجمل
tamahi@hotmail.com