الطريقة التى خرج بها النائب توفيق عكاشة من جلسة البرلمان، أمس الأول، فى أعقاب مناقشة حادة مع رئيس المجلس، تُمثل حالة فريدة من نوعها، وتؤكد أننا أمام برلمان ما كان يجب أن يكون، أو على الأقل يجب حله، كما قال النائب فى اليوم السابق على طرده من الجلسة.
لمَن لم يشاهد الواقعة، استطلع رئيس المجلس رأى النواب على القرار، فوافقوا على إبعاد زميلهم عن الجلسة، إلا أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، حيث فوجئ الصحفيون والحضور بالنواب يصيحون ويهتفون: برّة، برّة، اطلع برّة، وهو سلوك لم نشهده سوى فى أُولى أول، أو ثان، أو ثالث، ابتدائى، أو إعدادى، أو ثانوى، أو أياً كان، النتيجة واحدة.
فى البداية، نود التأكيد على أن النائب فى البرلمان لا يمثل نفسه، هو يمثل دائرة قطرها عشرات الكيلومترات، يمثل ناخبين عددهم مئات الآلاف، ومواطنين يُقدر عددهم بالملايين، أى أن حرمان النائب من حضور الجلسات ليس حرماناً لشخصه، هو حرمان لأبناء الدائرة الانتخابية بأكملها، ومن ثَمَّ يجب أن يخضع هذا الإجراء لأسباب قوية وخطيرة، وليس لمجرد خلاف أو نقاش مع رئيس المجلس، أو أى أحد آخر، أضف إلى ذلك أن النواب يجب أن ينحازوا دائماً وأبداً لزميلهم المنتخب، خاصة أن الأمر كان يتعلق بطلب منحه الكلمة، التى هى حق لهم جميعاً، وهى الأزمة التى تضرر منها العديد من النواب، منذ أن بدأ المجلس عقد جلساته حتى الآن.
إلا أن ما حدث مع عكاشة، وما حدث قبل ذلك مع المستشار سرى صيام، حيث الموافقة على استقالته فى أول تصويت حولها، يوحى بأن النواب فى حاجة إلى مزيد من الوعى بطبيعة العضوية من جهة، وبطبيعة المرحلة من جهة أخرى، بمعنى أن الممارسة البرلمانية يجب أن تخضع لمزيد من الجدية والرقى، وليس لنظرية «خُد الباب وَراك»، كما حدث فى الأولى، أو أسلوب أُولى أول، كما حدث فى الثانية، وهو ما يجعلنى أنصح عكاشة هو الآخر، «وهو بالمناسبة نائب دائرتنا، وله حق النصيحة»، بأن يحذو حذو سابقه بالاستقالة، مؤكداً له أن الأمر لا يستحق، خاصة بعد أن تطور إلى تحقيقات ومُنغِّصات، قد تتجه إلى ما هو أسوأ.
بالتأكيد البرلمان الحالى يضم أغلبية ممن لم يمارسوا الحياة البرلمانية من قبل، أو حتى حياة المجالس المحلية، وهناك أيضاً أغلبية ممن لم يمارسوا الحياة الحزبية، أو السياسية فى مجملها، إلا أننا نتحدث الآن عن برلمان مصر، عن حياة برلمانية ممتدة لنحو مائة وخمسين عاماً، هى الأقدم، والأكثر رسوخاً فى المنطقة ككل، ما يجرى فى الجلسات تسجله المضابط، أى يسجله التاريخ، لا أفهم كيف ستسجل المضابط سلوك هذا النائب أو ذاك أو النواب ككل حينما يهتفون: برّة، برّة.
لنعترف أننا أمام مرحلة بها ما بها من المهاترات، بها ما بها من التسيّب العام، إلا أن الأمر حينما يتعلق ببرلمان الشعب، أو برلمان الأُمَّة، فإن الأمر يجب أن يكون مختلفاً، وإلا لما كنا فى حاجة إلى كل هذا الإنفاق على انتخابات نيابية، غريبة الشكل والمضمون، كان الشعب أولى بكل ما أُنفق عليها، وهو ما يزيد على مليارى جنيه، فى وقت عانى فيه المشردون من صقيع الشتاء، وعانى فيه المرضى من إهمال المستشفيات، وعانى فيه المساجين من نقص الرعاية، وعانى فيه المجتمع ككل من نواحٍ عديدة.
الأمر أيها السادة جد خطير، لم تعد هناك المؤسسة القدوة، أو السلطة النموذج، تم تشويه الجميع، من خلال الجميع، فى إطار صراع محموم وواضح، لم تَجْنِ منه الدولة المصرية سوى الفوضى والتوتر والقلاقل هنا وهناك، كان من المهم أن يضطلع البرلمان بمسؤولياته، بفض هذه الاشتباكات الحاصلة فى كل مكان، وعلى مختلف الأصعدة، إلا أنه للأسف فعل العكس، اشتبك هو داخلياً، على الرغم من تلك التركيبة الغريبة بداخله، فلا حزب للحكومة، ولا حكومة للحزب، ولا معارضة، ولا ائتلافات حقيقية، ولا أى تجربة حزبية فاعلة، أو برلمانية مثيرة للانتباه يمكن أن يسجلها التاريخ.
الأمر إذن يحتاج إلى وقفة، وقفة مع رئيس المجلس، ومع الأعضاء، ومع الأمانة العامة، رحم الله الدكتور رفعت المحجوب، وأطال الله فى عمر الدكتور فتحى سرور، وسوف نظل نتذكر دائماً العديد من القمم فى حياتنا النيابية الحديثة، بدءاً من علوى حافظ، وممتاز نصار، ومحمود القاضى، وأبوالعز الحريرى، وحتى كمال الشاذلى وأحمد عز، مع الاحتفاظ بالألقاب للجميع.