مذكرات ثائر لم يشارك في الثورة (5-5)

وليد علاء الدين الإثنين 22-02-2016 23:27

لم يمر وقت طويل على نزول الجيش إلى الشوارع، لم نكن قد رأيناه بعد، وإن كنا ألفنا وجوده من خلال التليفزيون وتكرار نداءات رجال الجيش من ميكروفون الجامع تطالبنا بالتزام بيوتنا للتمكن من حمايتنا، والتي بدت وكأنها تمهيد لأصوات طلقات الرصاص التي تظل تؤنسنا طوال الليل قاطعة صمت منطقة الأهرام بالجيزة. ولا نعرف معها من يطلق النار على من!

عندما قررنا أن ننزل إلى الشارع متجهين صوب ميدان التحرير، كنا نعرف أن حظر التجول أمامه ساعات قليلة، ولكننا- لانعدام الخبرة- كنا نظن أنها كافية للوصول إلى ميدان التحرير، الذي كنا نقصده- ليس باعتبارنا ثوارًا- ولكن لإرضاء فضولنا متسترين معًا تحت مبرر اقناع شقيق سامح بالعودة إلى منزله للحصول على فرصة لإراحة قلبه المريض.

غابت الكثير من التفاصيل عن الذاكرة الآن، لكنني- وبعد خمس سنوات- لا زلت أستطيع تذكر ذلك الشعور الغريب الذي كان يلفني وقتها، وإن كان صعبًا على- ما زال- وصفُه.

يمكنني من باب الاستسهال وصف شعوري بالخوف أو بالقلق، لكنه بالفعل أكثر تعقيدًا من ذلك، إنه مزيج بين رغبة شديدة في أن أكون جزءًا من هذه اللحظة، وإحجامٍ أشد عن الانسياق وراء تلك الرغبة، تحت وطأة ما يشبه اليقين باللاجدوى -دفعني إلى مغادرة مصر قبل حوالي خمسة عشر عامًا وقتها- أو ربما هو اعتيادي على هذا اليقين بعد أن تخمّر وعشّش في الروح والقلب عبر سنين طويلة مرت على هذا الشعب لم تخلُ واحدةٌ منها من مبررات تدفعه إلى الثورة... لكنه لم يثر، أضف إلى ذلك أن الدولة الأمنية طوال هذه السنين لم تترك فرصة لإثبات أنها صاحبة اليد العليا إلا واستغلتها بمهارة ضخَّمت الصورةَ الذهنية عن قبضة الأمن الحديدية التي تحمي النخبة الحاكمة، وضيقت الآمال في القدرة على مواجهتها.

أو ربما هو شعور الغريب الخائف من انقطاع السبل به! نعم؛ فطوال الخمس السنين الأخيرة من اغترابي -على الأقل- صرت أشعر خلال وجودي في مصر بأنني غريب؛ لا أجيد التعامل مع تفاصيل الشارع؛ أتردد في قطع الطريق وأنتظر طفلًا أو شابًا يمر لأحتمي به، لا أعرف كيف أتواصل مع موظفي المصالح الحكومية، لا أفهم تلميحات بعضهم للحصول على «الاصطباحه» أو «الحلاوة»، وحين أفهم لا أجرؤ على فعل ذلك، أتعجب من أداءات الشباب وتعليقات المراهقين في المحلات والميكروباسات، وأندهش من ردودهم التي تبدو لي -وحدي أحيانًا- غاضبة وينقصها الذوق والأدب، وحين أنقلها للأصدقاء أندهش مرة أخرى لأنهم لا يرون فيها ما يثير الانتباه.. .؛ ذات مرة كنت في المقعد الثالث من سيارة الميني باص «المشروع» في الأسكندرية، وقبيل محطة نزولي رَبَتُ بلطف على كتف الولد الجالس أمامي وطلبت منه بهدوء تمريري للنزول لأن محطتي اقتربت، كان هدفي أن أمنحه فرصة للاستعداد حتى لا أربكه أو أفاجأه بطلب النزول.

في حين توقعت منه إجابة مثل: حاضر يا باشا، عيوني يا ريس، تؤمر يا برنس، أوامر يا هندسة أو حتى يا كابتن، أو ولا يهمك يا كبير... إذا كان ينتمي إلى ثقافة الجدعنة الشعبية، أو ثواني يا عمو، حاضر... لسه شويه ع المحطة، مفترضًا أنني لا أعرف- إذا كان من أبناء الطبقة المتوسطة الذين كانوا في الزمن القريب يخاطبون كل كبير بـ «يا عَمُ».. .، أجابني الشاب بصوت جاف ولهجة عدوانية مستخفة: «صبرك بالله الدنيا ما طارتش».

واقعة مثل هذه كانت كفيلة بإثارة تساؤلاتي حول ما يحدث لثقافة الشارع من تدهور. لقد ضغط الفساد من أعلى إلى أسفل ببشاعة طالت منظومة القيم وانحرفت بسلوكيات الناس إلى حد شديد الوضوح.

الغريب أنه لم يكن واضحًا بهذا المعنى عندما أنقله -مصحوبًا بتخوفاتي بشأنه- إلى الأصدقاء المقيمين في مصر: «هو دا العادي يا باشا».

في واحدة من الزيارات رتبت لقاء مع صديق عزيز بإحدى مقاهي شارع فيصل، كانت زيارتي للقاهرة خاطفة، وأمامنا حوالي نصف ساعة للدردشة والحكايات بعد غياب سنتين، بعدها على أن أنطلق إلى المحطة للحاق بالديزل إلى الاسكندرية.

اهتماماتنا مشتركة، كنا نتحدث عن حالة «التوحش» التي تزداد وتيرتها في الشارع المصري، والتشوهات التي تفرضها «ثقافة الزحام» على البشر؛ زحام في الشارع وفي المواصلات، زحام في الحصول على فرص الرزق والعمل والزواج... ثقافة جعلت كل إنسان ينظر إلى الآخر باعتباره منافسًا على الفرصة التي هي في الأساس تتقلّص كل يوم؛ فتتراجع مساحات الود مقابل مساحات القلق من الآخر ومحاولة الفوز عليه أو التخلص منه... عندما وقف أمامنا شابٌ في الثلاثينات من عمره، يحمل على إحدى ذراعيه بضاعة يعرضها للبيع (أظنها ساعات يد)، وفي يده الأخرى حقيبة تتدلى منها بعض المعروضات الأخرى، ألقى علينا الشابُ السلام فرددنا السلام، ومبتسمًا بهدوء بادرته شارحًا له -في جملة حرصت أن تكون قصيرة- أننا في حاجة إلى هذا الوقت وأن أمامنا -صديقي وأنا- نصف ساعة لا غير للحديث في أمر هام قبل أن أتحرك للحاق بالديزل، ولذلك فإن وقتنا لن يسمح بالشراء أو حتى باستعراض ما يبيع.

لا أذكر الحوار الذي دار بيننا بالتفصيل، ولكن هذا الشاب عمليًا استهلك نصفَ الساعة ومعها نصف دمنا الذي احترق في محاولة كظم الغيظ وعدم التطاول عليه، بينما هو ممعن في محاولة إقناعنا بأننا لن نخسر شيئًا إن استمعنا إليه وشاهدنا ما يعرض. إلى أن اضطر صديقي- بحكم أنه كان مقيمًا في مصر وقتها وما زال قادرًا على التعامل بأدواتها- أن ينهر الفتى ويوبخه ويلقنه درسًا في فن التعامل مع الناس، وهو الدرس الذي -وإن كنت أتمنى أن يتعلم منه الشاب- إلا أنني واثق أنه لم يفعل.

هذا موقف آخر كان الأصدقاء يرونه بسيطًا- ربما بحكم الاعتياد- ولكنني لم أره كذلك، أعرف أن هذا الشاب ضحية- مثلي ومثلكم- ولكنه في الوقت نفسه عَرَض صغير لمرض خطير اسمه الفساد العظيم الذي ضرب بجذوره في أوصال المجتمع واستشرى في جنباته؛ لم تعد هناك قواعد أو معايير أو آداب أو أخلاقيات حاكمة لأي شئ، لا مهنة ولا صنعة ولا مواصلة.

وهو أمر لا يصعب توقعه، فعندما يكون هدفك من عملك مجرد البقاء على قيد الحياة، سد الجوع أو توفير قوت اليوم لك أو لمن تعول، ينعدم الأمل ويموت الطموح، ويتحول العمل إما إلى استجداء أو بلطجة- وفقًا لما تمليه عليك المناسبة أو توفره لك الظروف.

هذا الشاب يعمل فقط من أجل البقاء على قيد حياة لا تَعده حتى بالأمل، وهو يعمل عند تاجر لا تحكمه لا أخلاقيات ولا معايير ولا يعد الشاب سوى بما تجنيه يداه، فلم يعد أمامه سوى «الغتاتة» و«التناحة» أو «البلطجة» إن لم يكن ليبيع فلكي يقنع نفسه المهدرة كرامتها على رصيف الحاجة بأنه قد فعل كل ما في وسعه بل فعل ما يفوق طاقته.

تفاصيل كثيرة مثل هذه، ربما أصغر وربما أكبر، لم يكن الأصدقاء يرون فيها سوى «غُربتي» التي جعلتني «أنسى» الأوضاع في مصر، أبدًا لم أنس، وأبدًا لم تكن الأوضاع كذلك. كنت أرى في هذه التفاصيل التجليات الأخيرة التي تشبه نهايات عصور الانحطاط في التاريخ، وبقدر ما كانت تدفعني للقلق على مصر، كنت أرى الأمل من خلال الخروق والثقوب التي تحدثها يومًا وراء يوم في الغشاء الذي يفصل الناس عن رؤية من يفعل فيهم ذلك والثورة في وجهه.

في كل زيارة كنت أرى -بعين الزائر- نتائج ما راكمته الشخصية المصرية من تغيرات في كل شئ، إلى أن صرت على شبه يقين بأن حدثًا كبيرًا على وشك الحدوث يصعب التكهن به أو قياسه، وعبّرتُ عن ذلك في دراسة مطولة تحت عنوان «صدمة الخروج من زيف الصورة الذهنية» نشرته مجلة أدب ونقد سنة 2006.

…..

كنا قد اجتزنا الشوارع الخلفية التي قادني سامح عبر دهاليزها إلى أن صرنا في شارع الهرم، مباشرة أمام كازينو الليل، كانت لوحة الكازينو الرئيسية مكسورة ومنهارة، واللوحة الدعائية المقابلة له ممزقة. كنا نستطيع من الجهة المقابلة للشارع أن نرى مدخل الكازينو وقد تم إغلاقه بألواح خشبية، وثمة تجمع من الرجال يحوم حوله، وآثار حرائق وبقايا زجاجات وأخشاب ملقاة على أرضية الساحة الواسعة المقابلة.

كنا- سامح وأنا- كأنما اتفقنا على الصمت، أو أننا أدركنا من دون اتفاق أن كلًا منا في حاجة إلى صمت يجتر خلاله تصوراته وذكرياته وأفكاره التي تستدعيها تلك اللحظات.

لم تفلح كل مشاهد التخريب التي طالعتنا بمجرد دخولنا شارع الهرم في انتزاع أحدنا من صمته، بينما نجح «توك توك» صغير -كان يركض كالفأر الأسود في الاتجاه الآخر من الشارع- ليس في قطع صمت سامح فقط، بل في انتزاع صرخة دهشة خرجت من أعماقه كالطلقة: «توك توك ماشي بالعكس في شارع الهرم! دلوقت بس اتأكدت إن في ثورة قامت».

waleedalaa@hotmail.com