(1)
كيف يتحول رجل «متحفظ»، مهذب في تعاملاته، إلى حالة فضائحية تشبه حالة «الشيخ حسني» في فيلم «الكيت كات»؟..
(2)
شغلني السؤال قبل سنوات، عندما بدأ الدكتور بطرس غالي في نشر مذكراته السياسية، فقد خرج عن تحفظه تماماً وتحدث عن معظم الشخصيات بصراحة صادمة (ما عدا ابن أخيه يوسف بطرس غالي)، لقد هاجم هذا، وسخر من ذاك، في الوقت الذي واصل فيه «التحفظ» بشأن كثير من القضايا المهمة، والأسرار السياسية، والألغاز التي ارتبطت باسمه، وفي مقدمتها ما أثير بشأن تورطه في جرائم الحرب الأهلية برواندا التي راح ضحيتها نصف مليون إنسان، وما نشر عن وساطته في تجارة الأسلحة وتورط نظام مبارك في هذه المذابح، ومثل إخفاقه (الذي وصل إلى درجة التواطؤ الأممي) في منع مذابح البوسنة، لكنه في تناول الأشخاص تجرأ على إبداء مكنونات نفسه في الجميع، بما في ذلك السخرية الصريحة من الرئيسين الذي عمل معهما (السادات ومبارك)، وهو تطور غريب خدش صورة الدبلوماسي المهذب التي تقمصها غالي لأكثر من 30 عاما.
(3)
هجمات غالي السياسية، لم تكن «زلات لسان»، وهذا ما أعود إليه لاحقا، لأن موضوع مقال اليوم، يركز أكثر على الإعلام، فالمفارقة التي استوقفتني ليس حساسية الدبلوماسي والحقوقي وداعية المجتمع المدني، تجاه النقد، ولكن حساسية الإعلامي ضد الإعلام، فالملفت أن غالي عمل كرئيس تحرير لمدة 17 سنة من عمره، قبل أن يتوجه للعمل السياسي والدبلوماسي، ومع ذلك كشفت آراؤه أن نظرته للإعلام كانت متوترة ومحل شك واستهجان، فهو يرى مثلاً أن المحطات التليفزيونية تستبيح منزله وكأنه ستوديو تابع لها..!، كما أنه لا يتحمل مقالاً نقدياً عن أحد كتبه، من د. فؤاد عجمى أستاذ الدراسات الشرق أوسطية في جامعة جونز هوبكنز الأمريكية، ويقلل من شأن الباحث الأكاديمي قائلا: «أحد الشيعة اللبنانيين ويدعى فؤاد عجمى كتب صفحتين من الشتائم عن كتابى، مدعيا أنها نقد..!»، ويصف الإعلامى حمدى قنديل بالتسلط وأنه سعى أثناء حوار معه إلى «تحجيمه»، ويهاجم الإعلامي سامى حداد، وينتقد بشدة طريقته في إدارة الحوار التليفزيوني عبر شاشة «الجزيرة»، ويعتبر أن أسلوب استثارة الضيوف من أجل إرضاء الجمهور، أشبه بإسقاط الثيران في حلبة المصارعة لانتزاع صيحات الاعجاب من المشاهدين، ولا تتوقف حساسية غالى من النقد عند الإعلام العربي وفقط، فهو يصف الصحفية الفرنسية كلير ثرايان بأنها «امرأة لئيمة»، تكتب ضده وضد الفرانكفونية باستمرار في صحيفة «لوموند».
(4)
بنفس الحساسية تعامل غالي مع المخرج يوسف شاهين، إذا كان الحديث عن نقد شاهين اللاذع للأصولية الإسلامية، وأفكار التطرف، أثنى عليه وامتدحه: «فنان مبدع»..«حسنا تفعل يا يوسف»، وإذا كان الحديث عن معارضة شاهين للحكومة والسلطة فإنه: «تلميذ طائش ومتوتر».. «ينحاز للمعارضة، ويلعب لعبة المناضل اليسارى المتعصب الرافض لكل شىء»
يحكي غالي في مذكراته أنه سافر في أكتوبر 1997، إلى باريس لمناقشة كتابه «طريق مصر إلى القدس» من فقرة من برنامج «حساء الثقافة» الذي يعده ويقدمه الناقد الأدبى برنار بيفو، وفى البرنامج نفسه كانت هناك فقرة عن فيلم «المصير» لشاهين، والذى كان قد شغل فرنسا قبل أشهر عند عرضه في مهرجان «كان» في مايو 1997. قبل البرنامج بيوم واحد شاهد غالى فيلم شاهين في عرض خاص ويقول في مذكراته: تأثرت حتى كدت أذرف الدمع.. تصوير سينمائى للصراع بين قوى التقدم والأصولية الإسلامية، بين حب الحياة والظلامية في وجه المتطرفين الذين يريدون النظر إلى الإسلام الأصولى على أنه الدواء لكل العلل.. لكن أبطال يوسف شاهين يردون بالموسيقى والغناء والرقص، أي ببهجة الحياة. بالموسيقى والغناء والرقص يدفعون بالجهالة إلى داخل حدود معقلها: عالم الظلمة.
(5)
في اليوم التالى وبعد مشاركة غالى مع شاهين في البرنامج التليفزيونى «Bouillon de culture» سجل غالي في مذكراته ما يلي: بقدر ما أثر في فيلم يوسف شاهين، خاب أملى في أدائه هذه الأمسية، لقد اختار التعصب، والمعارضة وهاجم الحكومة المصرية مرات عديدة، وحين التقينا قبل البث، أحسست أنه كثير التوتر، كان يخشى أن يتأثر أداؤه بسبب ضعف سمعه، ما إن بدأ النقاش، حتى رأيته يتحمس إلى حد الإثارة، وبذلت وسعى لتحاشى الانجرار إلى لعبته، تحاشيت بلباقة المواجهة التي يبدو أنه أراد أن يقودنى إليها، ألعب أنا أيضا، دور العجوز السبعينى الذي يتحمل بابتسامة راضية ودبلوماسية تهريج التلميذ الطائش، وهو الدور الذي لعبه يوسف شاهين، والذى أحسده عليه. فله أن ينتقد الحكومة، أما أنا فواجب التحفظ يمنعنى من ذلك.
(6)
قبل هذا الموقف بأشهر قليلة كان غالى قد التقى الكاتب والأديب لطفى الخولى (رحمة الله عليهما) في حفل غداء في السفارة المصرية بباريس، وتكشف نظرة غالى للخولى عن علاقة مركبة يشوبها الكثير من التوتر والعشم ايضا، لكن أساليب تخفيف هذا التوتر في النخبة المصرية عموما، كانت ولا تزال تعتمد على التفريغ أو التجاهل أو التناحر، أكثر مما تعتمد على التحليل، والتفاعل، ومناقشة الخلافات، والجدل الخلاق بين المتناقضات، وهى الضرورة التي يراها المفكرون في كل أنحاء الدنيا شرطا في شروط التقدم والتطور.
يقول غالى: لطفى الخولى مناضل يسارى، سُجن أيام حكم عبدالناصر، معرفتنا ببعضنا قديمة وودية، كان مكتبانا في الطابق ذاته من مبنى صحيفة «الأهرام»، فقد كنت رئيسا لتحرير مجلتى «السياسة الدولية» و«الأهرام الاقتصادى» فيما كان الخولى رئيسا لتحرير مجلة «الطليعة» اليسارية، وفى كل مرة كان يلتقينى، لم يكن يتمالك نفسه ويقول لي: «أنت تمثل الرجعية المستنيرة».
فكنت أجيبه دوما: وأنت تمثل اليسار المنقرض الذي تخطاه الزمن.
بعد سنوات التقيته في موسكو، وكنت أزورها بصفتى رئيسا لجمعية الصداقة المصرية السوفيتية، يومها قال لى لطفى الخولى بلهجته الساخرة المحببة إياها:
- لا عجب أن يتم تكليفك بملف العلاقات بين مصر والاتحاد السوفيتى في هذا الوقت الذي ماتت فيه الشيوعية.!
(7)
يعود غالى إلى لحظة اللقاء بينه وبين الخولي في باريس فيقول: اليوم.. في السفارة المصرية، يتألق الخولى بشكل لافت، وهو يقول: العروبة ماتت.. ووحدة العالم العربى حلم لن يتحقق في جيلنا.. كلام يثير سفراء دول الخليج المتحلقين حول الطاولة، فيرددون معزوفة الشعارات الداعية إلى الوحدة العربية، يواجههم لطفى الخولى بعنف: «لا أحد يأخذكم في الحسبان، أنتم لستم دولاً، وإنما إمارات كرتونية».
تتصاعد حدة النقاش، فيتدخل السفير على ماهر: لا أرى حينها مخرجا لتنفيس الاحتقان وتحويل مسار الحديث، إلا الإشادة بالطعام الشهى للتحلية التي قدمت إلينا، والكلام عن أسعار رابطات العنق الباهضة الثمن.
(8)
الطريف أن هذا التخفيف الذي يستخدمه غالى، يعكس نظرة سريعة وغير متعمقة لأمور أخرى كثيرة، فهو يأخذ العالم البعيد عن اهتمامته بخفة وسخرية، فيعترف مثلا أنه خلط بين صوت عبدالوهاب وصوت عبدالحليم حافظ، وعاتبه على ذلك بشدة سائق تاكسى تونسي يعمل في باريس، ويشير أكثر من مرة في مذكراته إلى الدكتور ميلاد حنا بأنه مجرد صحفى معروف في «الأهرام»، وبسخرية لا تليق باسمه ومكانته يقول: إن حنا «طار من الفرح» لأنه حصل على جائزة سيمون بوليفار من اليونسكو، ولشدة اعتزازه بنيل هذا الشرف، كانت لديه النية في أن يكتب ذلك في بطاقته الشخصية!.
(9)
غدا أعود إلى الاشتباك المباشر مع شياطين المرحلة، لأن القضايا الساخنة تطاردني في الكوابيس، ولابد ان أتخفف منها حتى لا أموت بغيظي.. أما «يوميات غالي» فسوف نتصفحها معاً، كلما سمحت لنا «أشلاء الدولة» ببعض الهدوء والروقان...
الظاهر يا «واد يا هرم» مش مكتوب لنا راحة في جمهورية الخامسة صباحاً
جمال الجمل
tamahi@hotmail.com