سر قوة هيكل العجيبة!

جمال أبو الحسن الأحد 21-02-2016 21:45

«كان فى الواقع صارماً لحد لافت فى طقوسه، كما حكى وكتب كثيرون. ولم يتخل- إلا فيما ندر- عن دروع الهيبة التى يعرف أسرارها وكيفية إضفائها على أى مشهد يتصدره. أخذتنى فى الأسابيع الأولى هذه الطقوس. علاقته بالوقت، والمظهر، دقة اختيار اللفظ، وحرص مبالغ فى كل التفاصيل. حتى ما بدا منه عفوياً أو تلقائياً، فعليك أن تعرف أنه لا شىء بالصدفة فى مكتب الأستاذ. قررتُ التمرد على ذلك بوسائل كثيرة، لم تمر عليه بالطبع، بل سمح هو بها، وأسقط الدروع بقرارٍ منه. ربما بعض الحنو بحكم تقدم العمر وقت التقينا».

هذا ما كتبه الأستاذ شريف عامر، المحاور التليفزيونى اللامع، فى جريدة الشروق (السبت 20 فبراير). السطور تلمسُ شيئاً عاينه كلُ من اقترب من الراحل محمد حسنين هيكل، وكتب عنه وعن عالمه. هذا «الشىء» يُمثل سر قوة هيكل الأسطورية. سر تأثيره الممتد، المتجاوز للأحقاب، العابر للأجيال. السرُ فى عبارة موجزة يكمن فى أن هيكل شخصٌ صاحبُ أسلوب، وهذا أمرٌ- لو تعلمون- عظيم.

المثل الإنجليزى يقول إن «الأسلوب هو الرجل». المعنى أن أسلوب المرء، فى المأكل والمشرب والملبس واختيار الألفاظ ولغة الكتابة وطريقة الحديث وطبيعة العلاقات مع البشر، هو ما يعكس جوهر شخصيته الأصيل. تبدو الفكرة، من فرط بساطتها، وكأنها شىء مفروغ منه. الحقيقة أنها ليست كذلك.

كم من الناس حولك لديهم «أسلوب»؟ كم من الناس تُعنى بتربية «أسلوبها» وصقله؟ كم من الناس يتفردون بأسلوب حياتهم، حتى يصيروا فلتات نادرة تلفتُ الانتباه وتبعث على الإعجاب والافتتان؟ الإجابة: قلة قليلة، ربما كان هيكل هو الأبرز بينهم فى الحياة الفكرية والاجتماعية فى مصر. بل قد يكون الرجل من آخر من يُمكن وصفهم بالرجال المصقولين، ذوى الثقافة المتنوعة والذوق الرفيع، والأسلوب الأخاذ، والقدرة الآسرة على انتزاع الاحترام والمكانة. هذه النوعية من الرجال تكاد تنقرض فى مصر. قليلٌ من مشاهير اليوم يُمكن أن يُدعى حقاً «جنتلمان»، أو باللغة الشعبية: «برنس». هيكل كان هذا «البرنس»، تماماً كما كان محمد عبدالوهاب حتى آخر أيامه.

ليس هذا مقالاً عن تركة هيكل الفكرية والسياسية. لهذا مجالٌ آخر، وربما كان لصاحب السطور رأى فيه يُزعج محبيه الكثيرين. هذا مقالٌ عن هيكل «كأستاذ للأسلوب». فى هذا الجانب من حياة الصحفى الكبير ما يُفيد الناس على اختلاف مشاربهم واهتماماتهم. أن يكون للمرء «أسلوب» هو أمرٌ لا غنى عنه للنجاح فى أى مجال. الناجحون من يفرضون «أسلوبهم» على من حولهم.

كيف يكون للإنسان أسلوب مميز؟

الأديب والسياسى الإيطالى «كاستليونى»، الذى عاش فى مطلع القرن السادس عشر، هو واحدٌ من أهم من بحثوا هذا السؤال. كتابه ظل لعقود العمدة فى كيفية تكوين الرجل المهذب، متعدد المواهب، واسع الاطلاع. عنوان الكتاب هو Il cortegiano، ويعنى «رجل البلاط». جمع المؤلف مادته عندما عمل فى بلاط «أوربينو»، إحدى الإمارات الإيطالية فى عصر النهضة. غرض «كاستليونى» كان وضع معايير عملية لسلوك وثقافة من ينتمون للطبقة السياسية المُحيطة بالأمير.

رجل البلاط عليه أن يكون مُحبباً، واسع المعرفة. عليه أن يكون صاحب أسلوب بليغ آسر، حديثاً وكتابة. عليه أن يكون على دراية بالفنون والآداب. أن يكون متذوقاً للشعر والموسيقى. إلا أن أهم ما يُميز «رجل البلاط» هو قدرته على فعل كل شىء ببساطة ورشاقة وجمال. يقول «كاستليونى»: «القاعدة الذهبية فى اكتساب الرشاقة والجمال هى البعدُ عن التكلف والتصنع. أن يكون المرءُ كالسهل الممتنع. أن يصير قادراً على إخفاء جهده فيما يقول ويفعل، حتى تبدو حركاته وكلماته كأنها تأتى بلا مجهود، أو أنه يُقدِم عليها عفواً من دون تفكير».

هذا هو جوهر «اللعبة». سرُ الصنعة. ألا يظهر تكلفٌ فى الأسلوب. أن يبدو كل شىء وكأنه طبيعى وعفوى، بينما هو فى واقع الأمر حصيلة تدريب متواصل، وترتيب مقصود، وصقل مستمر للمهارات. نتاج اعتناء مضنٍ بالأسلوب والتفاصيل فى كل شىء. هكذا كان «هيكل»: كل حركة بحساب. كل سكنة مقصودة. كل لفظ فى مكانه. لون رابطة العُنق لا يُترك للصدفة. ما يُقال لهذا غير ما يُقال لذاك. الكلام فى حضرة الرؤساء له أصول (هو صاحب تعبير «مقام الرئاسة»). الظهور العام له طقوس.

عندما قرر هيكل الانتقال من مجال الكلمة المقروءة إلى التليفزيون، اقتربنا أكثر- كمُشاهدين- من أسلوبه. من طريقته فى الكلام، واختيار اللفظ، وجذب انتباه المتلقى. الرجلُ يحرص فى كل مرة أن يُرصع حديثه بما يلتصق فى ذهن السامع من مأثور القول، شعراً ونثراً. علاقته بالشعر عجيبة. يحفظ آلاف الأبيات ويستخدمها فى موضعها. يبدو لنا العرض كله كأنه «السهل الممتنع». يتنقل بين السياسة والفنون والتاريخ بسلاسة العارف، وبذوق الفنان، وبراعة الحكّاء.

هيكل لم يكن مُفكراً كبيراً. لا أظن أنه ادعى ذلك يوماً. فى المقابل، هو كان أهم كثيراً من مجرد جورنالجى كما اعتاد أن يصف نفسه تواضعاً (تذكر أن تمام الصنعة هو إخفاؤها!). هيكل كان «رجل بلاط» من طراز نادر رفيع. «جنتلمان» حقيقى صنع نفسه بنفسه. هو جمع مقومات الأستاذية فى هذه الصنعة التى لا يُجيدها سوى القلة. أضفى عليها بهاء وسحراً وقبساً من المهابة والترفع والاعتزاز بالنفس. من فرط إتقانه لصنعته، ومن فرط اعتنائه بصقل أسلوبه فى كل شىء يفعله، صار أكبر من البلاط وأبقى من الأمير. ذهب «أميره» وظل هو ملء السمع والبصر.

عبر مسيرته الطويلة، سجل هيكل علامات مهمة فى تاريخ الصحافة العربية. ترك تلاميذ وأفكاراً ومواقف. استن سنناً وممارسات مستمرة معنا إلى اليوم، بخيرها وشرها، بنافعها وخبيثها. على أن أهم إنجاز لهذا الرجل النادر هو تلك القطعة الفنية الساحرة التى ظل يعمل عليها بدأب طول حياته: هيكل نفسه!

gamalx@yahoo.com