لم تكن دولة مبارك دولة قانون بالتعريف العصري للدولة التي تضع قانونا مطابقا للمواصفات العالمية للقوانين وتلتزم به، لكنها كانت في الوقت نفسه دولة انتظم فيها كل شيء وصارت له قواعده.. حتى خرق القانون كانت له قواعده التي لا يجرؤ أحد على خرقها.
كان حاتم يقف حينها على هامش يضمن له فتاتا مما تحظى به البدلة الميري من احترام، وفتاتا من أرباحها ومكاسبها، وكان حاتم يلتزم بالقانون الذي جعل جرائمه محدودة محصورة في تلقي «العشريناية المكرمشة»، أو الوساطة في «خمسيناية» أو «مياية» الباشا.
وحاتم حينها يعرف أن ما يفعله مخالف لقانون ما مفترض، لكنه في نفس الوقت لم يكن مخالفا لقانون الغابة الذي فرضته دولة مبارك، وهو قانون لا يهدف إلى تحقيق العدل كما تسعى قوانين المدن، بل إلى تحقيق التوازن فقط عن طريق تنظيم القنص، وتقسيم حصص الفرائس على الضواري.
وعندما سقط مبارك مبارك سقط معه قانون الغابة، وكانت الصدمة عنيفة بشكل خاص على حاتم، لأنها أخرجته من هامش الفتات، وأعادته لفترة ليست بالقصيرة إلى خانة محدودي الدخل التي ينتمي إليها نظريا.
وهمست نفس حاتم له في لحظة التنوير: «لم يكن هذا اتفاقنا».. فوظيفة أمين الشرطة بغير قوانين الغابة لا تناسب حاتم الذي لم ينخرط في هذا السلك ليحقق الأمن والأمان للوطن، ولا لأنه يؤمن منذ الصغر بالهتافات الفارغة كجدوى العدالة وتطبيق القانون في الاقتصاص للمظلومين، فالمهنة لن تحقق أهدافها إلا في إطار قانون يضمن مقاسمة حاتم للباشا في هيبته والمكاسب.
وفتح حاتم عينيه على حقيقة أنه تحول إلى قلامة لأظافر نظام مضى، وأنه موظف حكومي من طبقة متدنية كل دورها هو أن تقوم بما تأنف أن تقوم به طبقة الباشاوات، وأنه منكوب اجتماعيا، يظن نفسه ضابطا وهو ليس بضابط.
رأى حاتم الذي كان من أدوات النظام السابق الذي خرجت الثورة للمطالبة بسقوطه، بل الذي كان سببا من أسباب اندلاع هذه الثورة، أن دور المظلوم يناسبه بشكل أفضل، وأنه من حقه كمظلوم مقهور اجتماعيا أن ينتفض، ووجد ضالته في مواجهة هذا القهر في آليات الثورية، ووجد أن انفلات الثوريين أنسب له كثيرا من دولة القانون.
لم يسبق أن كان حاتم بهذا القدر من الضراوة والتوحش قب أن يختبر قوته الثورية، وقبل أن يتذوق طعم تضامن قوى الكفاح النوعي على السوشيال ميديا عندما اعتصم وانقطع عن العمل وخرب وأحرق وحاصر.
عندها لم يكن حاتم يرى الثوريين قوى تخريبية عميلة متواطئة مع الإرهاب، ولم يكن الثوريون يرونه من طرف الداخلية التي لن يطهرها الحرق بجاز، وإنما كان يراهم روادا ملهمين سابقين في صنعة الثورية واقتضاء الحق بالتظاهر والتلويح بالعنف، وكان الثوريون يرون حاتما رفيقا في النضال.
وخرج حاتم من دائرة الإجرام الصغير إلى دائرة الإجرام الصريح، وبدأ يفرض الإتاوات لحسابه، ويصيغ القوانين لترسيم سلطاته، ويطلق النار على من يخالف هذه القوانين.
كان حاتم المستفيد الأكبر من آليات الثورة، فهو اليوم يعرف معنى التكتل، ويعرف فوائد الاعتصام، ويدرك خطورته الذاتية التي يفرضها على الدولة كلما لاحت في الأفق كلمة «الهيكلة»، كما صار يعرف أرقام قناة الجزيرة ولديه الآن صفحته على فيسبوك.
صار حاتم واحدا من البلطجية في دولة ما زالت في الفصل الأول من محاولات العودة إلى دائرة القانون، مثله مثل المدرس الذي يضرب تلميذا حتى الموت، أو كالتلميذ الذي يضرب مدرسا حتى الموت، فلا فارق.
وعندما أحال الرئيس السيسي المسألة إلى مجلس النواب، بدا وكأنه يستغيث بأطراف دولة القانون التي أعلن بداية العودة إليها بخطابه في المجلس الذي أعلن فيه أيضا نهاية الحالة «الثورية».
لم يبق إلا أن يعلم حاتم، وكل حاتم غيره استغل حالة انفراط الدولة، أننا أمام بديلين لا ثالث لهما، إما دولة قانون تضع كل حاتم في مكانه، وإما دولة حاتم الذي يضع قوانينه بنفسه.