فى ممرِ معتمِ بلا منفذ للتهوية. وعلى أرض أسمنتية تفوح منها روائح عفنة لبقايا أطعمة وقمامة، انتهت حياة «أشرف» بمشهد لجثمان ملقى على ظهره. حوله ثمانية أبواب مصفحة سوداء يطرق عليها محتجزون بأيديهم لإخبار الضباط بوفاة محتجز جديد، بقسم شرطة دار السلام، يوم 13 مارس 2014.
منذ احتجازه فى منتصف مايو 2013 بتهمة انضمامه لـ«تشكيل عصابى» وحتى مماته؛ قضى9 أشهر محتجزاً احتياطياً بين 45 آخرين فى غرفة تقاس فيها المساحة للشخص الواحد بـ«شبر وقبضة يد».
«يستحيل السير فى الغرفة دون الاحتكاك بأجساد المحتجزين، كنا نسير على النيام حتى نذهب إلى «الحمام البلدى» الذى يفصله عن المحتجزين قطعة قماش»، وفق ما يشرح لنا حسام الدين مصطفى، أحد الشهود على وفاة أشرف داخل الحجز، واستعانت بشهادته النيابة، خلال التحقيقات.
«قبل أسابيع من وفاته كان يشتكى من ألم أسفل بطنه وتضخم فى خصيتيه. وقبل وفاته بأيام أصيب بنوبات هياج حين بدأ إحساسه برجله اليسرى ينعدم، وفقد القدرة على الوقوف»، يقول ذلك فى شهادة رسمية خلال تحقيقات النيابة، إلهامى محمد عبدالعزيز، الذى كان محتجزاً احتياطياً فى ممر حجز القسم نفسه، وكان مصاباً بنفس مرض أشرف (فتق قربى.. وهو كيس ليفى يتكون فى الفخذ، ويتضاعف بالانتشار بـ«كيس الصفن»).
توثق شهادة بدوى محمد صادق، أحد المحتجزين، خلال التحقيقات وبعد معاينة النيابة حجز القسم، أن «أشرف» فى ليلته الأخيرة على قيد الحياة طلب من الضابط المسؤول عن الحجز السماح له بالانتقال من غرفته إلى «الطرقة الخارجية»، حيث يبيت 21 محتجزاً من المرضى بعيداً عن غرف الحجز المكدسة بالمحتجزين منعدمة التهوية.
«بدوي» نفسه، تم نقله من حجز قسم دار السلام إلى سجن المنيا عقب الإدلاء بشهادته أمام النيابة عن وفاة زميله، مات هو الآخر فى سجن المنيا بحسب ما أخبرنا أهله حين ذهبنا للبحث عنه، وإعادة تسجيل شهادته فى هذا التحقيق.
بعد الواحدة من صباح الخميس الموافق 13 مارس 2014، ساد الصمت فى غرف حجز القسم، لم يكسره سوى صراخ «أشرف»، الذى استمر فى الاستغاثة حتى مطلع الفجر. وفجأة، تصلب جسده، وانخفضت درجة حرارته، وبدأ يرتعش، ثم أغلق عينيه ولم يفتحهما مجدداً. فى نفس اللحظة، بدأ جميع المحتجزين بالطرق على أبواب الحجز المصفحة لإخطار ضباط القسم بوفاة محتجز جديد. كان أشرف رابع محتجز يموت بالقسم نفسه، خلال ثلاثة أشهر.
لا يختلف حال 295 محتجزاً فى قسم شرطة دار السلام عن أحوال المحتجزين بـ45 قسماً للشرطة فى محافظة القاهرة. المقارنة التى أجريناها أثناء التحقيق تثبت تطابق الظروف فى أغلب أماكن الاحتجاز فى العاصمة وعدد من محافظات الوجهين البحرى والقبلى، محتجزون فى غرفٍ يقل نصيب الفرد فيها عن نصف متر، لا تتوافر فيها المعايير الصحية من نظافة، وإضاءة، وتهوية، وتنعدم فيها الرعاية الصحية أو الاهتمام بأوضاع المحتجزين المرضى.
السبب الأول والأخير لهذه الأحوال التى يعانى منها المحبوسون فى الأقسام بشكل عام هو استثناء أماكن الاحتجاز الملحقة بأقسام الشرطة من تعريف السجون، فى القانون رقم 396 لسنة 1956 بشأن تنظيم السجون.
على العكس من السجون؛ لا توجد لوائح أو قوانين تنظم قواعد الاحتجاز فى أقسام الشرطة، مثل طبيعة مكان الاحتجاز ومدته، والطعام ونوعه، والرعاية الصحية، أو حتى زيارات الأهالى.
يفاقم من وضع أقسام الشرطة السيئ، غياب تنفيذ القرار رقم 691 لسنة 1998 الصادر من وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلى، فى شأن كيفية معاملة المسجونين ومعيشتهم، حيث دخلت خلاله حالات «الحبس الاحتياطى» ضمن تعريف المسجون، وحدد فى مواده الحد الأدنى المقرر للمحبوسين احتياطياً من الطعام والملابس والأثاث وأدوات المعيشة الواجب توافرها، «كان يجوز تطبيقه على المحتجزين بالأقسام باعتبارهم محبوسين احتياطى»، حسبما يرى رضا مرعى المحامى بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية.
تقول زوجة أشرف التى التقتها «المصرى اليوم»، إنها كانت مضطرة لتسليم زوجها وجباته اليومية للقسم فى موعد يسميه المحتجزون «طبلية»، تضيف: «محدش بيسأل فى حد هناك». وفى يومى الاثنين والخميس من كل أسبوع كانت تصطحب معها بناتها الثلاث، يقفن فترة قد تمتد من 4 عصراً إلى 11 مساءً أمام القسم، ليحاولن رؤية والدهن فى النهاية من خلال شباك سلك فى باب مصفح يطل على ممر الحجز.
«الأمر الثابت، فقط، هو أنه لا يجوز حبس المتهم احتياطياً بقسم شرطة لأكثر من 4 أيام على ذمة التحقيق بمعرفة النيابة العامة، وفق قانون الإجراءات الجنائية. فإذا قررت النيابة استمرار حبسه يحال المحتجز إلى الحبس الاحتياطى فى أحد السجون العمومية» وفق ما يقول لنا ناصر أمين، عضو المجلس القومى لحقوق الإنسان. الذى يضيف: «حالة التكدس التى تشهدها السجون المصرية هذه الفترة أدّت لإبقاء المحبوسين احتياطياً بالأقسام واستخدامها كسجون، لعدم وجود مكان للمحبوسين احتياطياً فى السجون».
فطبقاً للتقديرات الرسمية التى نشرتها «وكالة أسوشيتد برس» أن ما لا يقل عن 16 ألف شخص اعتقلوا على مدار عام 2013. بينما وثق «ويكى ثورة»، وهى مبادرة يقوم عليها «المركز المصرى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية»، اعتقال 40 ألف شخص بين يوليو 2013 ومنتصف مايو 2014.
«خطورة ما يحدث الآن، أن مدد الحبس الطويلة تتجاوز حدود وإمكانيات أقسام الشرطة، فى ظل تقادم مبانى الأقسام التى كان أغلبها فى الأصل قصورا وفيلات أممتها السلطة خلال ثورة يوليو 1952 وحولتها إلى مراكز شرطية، واختيرت أماكن الاحتجاز بها دون مراعاة لاشتراطات السلامة والأمان»، بحسب ناصر أمين.
قبل وفاته بأسبوع لم تستطع زوجة أشرف رؤيته عندما ذهبت للزيارة: «مكانش قادر يتحرك لما رحت له بالأكل عند القسم، أمين الشرطة قال لى: جوزك طول الليل منامش ومش قادر يقوم.. وبعت واحد زميله فى الحجز اسمه أسامة عشان ياخد مننا الأكل».
حصلت الزوجة على طلب من رئيس نيابة دار السلام فى اليوم التالى، طلب فيه من مأمور قسم الشرطة العقيد حسين الحامولى، توقيع الكشف الطبى عليه، بمعرفة طبيب من مكتب الصحة. وهو الإجراء المتبع لنقل المحتجزين من الأقسام للمستشفيات، حيث يملك المأمور الصلاحية لنقل المحبوسين من عدمه طالما لم تكلفه النيابة بذلك.
فى اليوم نفسه ذهب طبيب يدعى مينا مجدى، من مكتب صحة دار السلام للقسم، للكشف على أشرف وأوصى بضرورة نقله إلى المستشفى لإجراء أشعة وتحاليل، بعدما وجد «أوراماً فى منطقة الحوض، والتهابا فى المفاصل»، وفق ما جاء فى تقرير إيضاح الحالة المرفق ضمن تحقيقات النيابة.
يقول دكتور خالد سمير، عضو مجلس نقابة الأطباء: «لا يوجد قانون يفرض على مفتش الصحة المرور دورياً على أقسام الشرطة، إنما من واجباته إذا تم استدعاؤه - وفى الغالب تقوم بذلك النيابة - للكشف على مريض فعليه أن يستجيب فوراً، ويكون دوره مقتصراً على استيضاح حالته، لأن أغلب مفتشى الصحة هم أطباء تكليف لم يتخصصوا بعد».
لم يكن ذلك الطلب الوحيد الذى تحصل عليه زوجته من النيابة، سبقه 4 طلبات خلال مدة حبسه، حصلت «المصرى اليوم» على نسخ منها، طلبت فى جميعها النيابة من مأمور القسم نقل أشرف إلى المستشفى، لكن لم يتم نقل المحبوس المريض إلا قبل ساعات معدودة من وفاته.
تقول زوجته إن قسم الشرطة لم يخبرها بنبأ وفاة زوجها. وإنها تلقت مكالمة هاتفية من أحد المحتجزين أخبرها بوفاة زوجها.
ما حدث فى قسم دار السلام مع أشرف وزملائه لم يكن شيئاً استثنائياً، فعلى الرغم من أن حالة أشرف كانت الوفاة الرابعة بقسم شرطة دار السلام خلال ثلاثة أشهر بين ديسمبر 2013 إلى مارس 2014، إلا أن مصلحة الطب الشرعى، تستقبل شهرياً ثلاث حالات وفاة خارجة من الأقسام على الأقل، بحسب الدكتور هشام عبد الحميد، المتحدث باسم المصلحة، وهى الحالات التى تأمر النيابة بتشريحها، وفق حديثه لـ«المصرى اليوم» أثناء إعداد التحقيق. وفى عام 2014 تلقت مصلحة الطب الشرعى 66 حالة وفاة من أقسام القاهرة والجيزة، حصلت «المصرى اليوم» على كشف بأسمائهم.
يرى «عبد الحميد» أن كثرة الوفيات بغرف الاحتجاز أمر «طبيعى» إذا وضعنا باعتبارنا أن المرضى المحتجزين تسوء حالتهم نتيجة التكدس، خصوصاً فى فترة الصيف مع ارتفاع درجة الحرارة، وهو أمر يتكرر كل عام، على حد قوله.
غير أن تقرير مصلحة الطب الشرعى المرفق بتحقيقات النيابة التى تلت وفاة أول متهمين بحجز شرطة دار السلام، أرجع وفاتهم إلى «افتقاد غرف الحجز المعايير الصحية من نظافة وتهوية ومرافق صحية»، وإشارة لـ«إهمال طبى يتعرض له محتجزون يتكدسون بغرف مساحتها لا تتسع لنصف عددهم، ما يجعلها بيئة صالحة لانتقال العدوى والأمراض».
فى مبنى صغير يبعد عن قسم شرطة دار السلام مسافة لا تتجاوز 20 دقيقة، يقع مكتب محمد هانى، وكيل نيابة دار السلام، والذى تولى التحقيق فى وفاة أشرف، تحت متابعة حازم اللمعى رئيس النيابة.
فى التاسعة من صباح يوم وفاة أشرف، ذهب وكيل النيابة إلى قسم شرطة دار السلام، اطلع على محضر حرره الملازم أحمد الدسوقى، الضابط النوبتجى، عقب الوفاة. يفيد المحضر بأن «وفاة المحتجز طبيعية. ووقعت بعد عودته من مستشفى مبرة المعادى»، وأرفق بتقرير كان كتبه الطبيب أيمن، نوبتجى الاستقبال، بالمستشفى قال فيه: «يشعر المتهم بآلام أسفل البطن نتيجة فتاء داخل كيس الصفن، وكتب له علاجاً خارجياً»، وأوصى فى نهاية تقريره بتحويل المتهم إلى «المستشفى التابع له» إذا تكررت الحالة.
إذن، لم يكن مستشفى مبرة المعادى هو المستشفى التابع له المحتجزون، بحسب ما كتب طبيب الاستقبال فى تقريره، وشهادة محتجز آخر يدعى أحمد عبدالرحيم أمام النيابة، خلال الاستماع لشهادة المحتجزين، حيث قال: «قسم شرطة دار السلام ينقل المحتجزين إلى مستشفيات خاصة لا تقبل حجز الحالات القادمة من القسم، وتكتفى بتقديم الإسعافات اللازمة فقط». أما بدوى محمد صادق، شاهد آخر فى نفس القضية، وكان مريضاً بالقلب، فقال خلال التحقيق، إن مأمور القسم يرفض نقل المحتجزين المرضى إلى المستشفيات الحكومية خوفاً من احتجازهم هناك، ويكتفى بالسماح لهم بالمبيت فى «طرقة» الحجز رغم توصية طبيب الصحة عندما يأتى للكشف علينا، بنقلنا إلى مستشفيات لتلقى العلاج».
بعد اطلاعه على المحضر الشرطى وتقرير الطبيب نزل وكيل النيابة لمناظرة جثمان أشرف داخل الحجز، كان الجثمان مغطى بـ«كوفرتة» وملقى فى طرقة الحجز خلف باب حديدى مصفح بالطابق الأرضى للقسم.
اعترض وكيل النيابة أثناء معاينة أجساد 21 محتجزاً من المرضى ينامون على أرضية الممر المعتم، يحيط بهم 8 أبواب مصفحة لغرف احتجاز تضم 295 محتجزاً آخرين، مسجلين فى دفتر قيد القسم.
أصغر غرفة، رقم «10» ضمت 22 محتجزاً يجلسون فى مساحة «2.5 متر فى 3 أمتار»، أى أن نصيب الفرد فيها أقل من نصف متر مربع، لم يكن بها حمام أو مراوح أو أى منفذ للتهوية عدا نافذة صغيرة من السلك فى الباب الحديدى تملؤها الأتربة، وفق ما دونته النيابة فى «محضر معاينة غرف احتجاز القسم»، أثناء التحقيقات.
أما أكبر غرفة، رقم «4» ضمت 45 محتجزاً. وغرفة رقم «5» ضمت 34 محتجزاً، فى مساحة تقريبية قدرها وكيل النيابة لكل منهما بـ«4 أمتار فى 5 أمتار»، وكانت بكل منهما مروحة واحدة، وشفاط معطل، و«حمام بلدى» يفصله عن المحتجزين قطعة قماش.
أما الغرف رقم «6» و«7» و«8» و«9»، كانت مساحتها التقريبية تتراوح بين 3 * 5 أمتار، و4 * 5 أمتار. أقلهم عدداً للمحتجزين كانت تضم بداخلها 30 محتجزاً، وأكبرهم استيعاباً كانت الغرفة رقم «8» التى ضمت بداخلها 38 محتجزاً، بكل واحدة منها حمام أرضى، وشفاط ومروحة صغيرة فى منتصف الغرفة، بحسب محضر المعاينة.
بعد معاينة الحجز، صعد محمد هانى، وكيل النيابة، لغرفة المأمور واتخذها مكتباً للتحقيق فى الواقعة، يرافقه أربعة محتجزين اختارهم لسماع شهادتهم حول كيفية الوفاة، وأثبت بالتحقيقات تنبيهاً أرسله للقسم قبل شهرين من ذلك بضرورة تنظيف القسم ونقل المحتجزين المتكدسين بغرف الاحتجاز.
اتهم الأربعة محتجزين فى شهادة رسمية المسؤولين عن قسم دار السلام بالتسبب فى وفاة المحتجزين نتيجة الإهمال، من بينهم أحمد عبدالرحيم فتحى، الذى قال خلال التحقيق إن الوضع السيئ داخل أماكن الاحتجاز هو سبب وفاة المحتجزين، فى ظل ضعف التهوية، وانقطاع الكهرباء المستمر، وتواجد دورات مياه غير صالحة تساعد على انتشار الحشرات الزاحفة بالحجز، وأضاف: «بعض المحتجزين ينامون فى الحمام أو مستندون على الحائط من كثرة عددنا».
فى نهاية اليوم أرسلت نيابة دار السلام للمحامى العام، طارق أبواليزيد، خطاباً يوثق وقائع وفاة المحتجزين الأربعة بقسم شرطة دار السلام خلال 3 أشهر، حصلت «المصرى اليوم» على نسخة من الخطاب، والتمست منه انتداب لجنة من الطب الوقائى لبيان مدى استيفاء الحجز للمعايير الصحية. وبعد ثلاثة أيام على إرسال الخطاب، فتشت لجنة من الإدارة العامة لمكافحة الأمراض المعدية، والإدارة العامة للرصد البيئى قسم الشرطة.
«كنت على وشك الإصابة بصدمة نفسية ولم أحتمل الهواء الخانق بملوثاته، لدرجة أن زملائى نصحونى بالخروج من الحجز لاستنشاق هواء نظيف أثناء معاينتنا للغرف. كانت تجربة فى منتهى القسوة»، تقول الدكتورة وفاء شلبى، المديرة السابقة للإدارة العامة للرصد البيئى، وهى واحدة من أعضاء اللجنة والتقتها الصحيفة وسجلت شهادتها بالفيديو.
تضيف: «كان المكان مزدحما لدرجة يستحيل السير فيها دون ملامسة أجساد المحتجزين، كانوا مقيمين فى أماكن أشبه بدورات مياه كبيرة، رائحة المخلفات الآدمية كانت تفوح من المكان، وفى كل شبر أجولة قمامة».
وبحسب نسخة حصلنا عليها، تفيد المستندات الرسمية المرسلة من لجنة الطب الوقائى للنيابة بعد معاينتها لحجز قسم دار السلام، بأن الحجز به 6 غرف لكل واحدة «حمام بلدى» دون مصدر للمياه، ويصدر روائح كريهة ويعتبر مصدراً لانتقال العدوى بين المحجوزين. ولا يتواجد بالغرف أى منفذ للهواء سوى شباك لكل غرفة مسدود من الأتربة العالقة فى أسلاكه، ويطل على جراج ديوان القسم، وهو مكان ملىء بمياه الصرف والطحالب الخضراء ذات الرائحة الكريهة والحشرات. والشفاطات الهوائية تعمل بشكل متقطع وتصدر صوتاً عالياً عند تشغيلها بما يؤثر على السمع. كذلك فى غرفة السيدات».
ويضيف التقرير: «النظافة داخل الحجز منعدمة، إذ تمتلئ الغرف بأجولة من القمامة تنبعث منها روائح كريهة، وتعتبر مصدرا للحشرات الزاحفة التى تعيش مع المحتجزين بالغرف، ضعيفة الإضاءة».
تشرح الدكتورة وفاء شلبى أن طبيعة عملها بإدارة الرصد البيئى اقتصرت على قياس نسب التلوث فى الهواء. تقوم بسحب عينة من الهواء بواسطة أجهزة حقلية تعطى نتائج مكونات الهواء بالمكان على شاشتها، وتستمد منه إدارة الطب الوقائى عملها.
المستندات الرسمية التى أرفقتها إدارة الرصد البيئى مع تقرير الطب الوقائى عن قسم شرطة دار السلام رصدت انبعاثات لغاز ثانى أكسيد الكبريت، وأكسيد النيتريك، وأول أكسيد الكربون، وقال التقرير فى نهايته إن الهواء الطبيعى الصالح للتنفس لا يحتوى على أى من تلك الغازات التى تنتج عن أنشطة الإنسان، وهى تؤدى إلى تلوث الهواء وتؤثر بالسلب على صحة الإنسان خاصة مع طول مدة التعرض لها.
تفسر الدكتورة وفاء شلبى طبيعة ما رأت بقولها: «المكان لم يكن به مساحة لحركة المحتجزين لدرجة تجبرهم على النوم بمحازاة بعضهم، أضف إلى ذلك أن بعضهم مرضى أو مصابون بجروح وتقرحات فى القدم»، وتضيف: «يبدو أنهم لم يتلقوا أى رعاية صحية فى ظل تلك الأوضاع، ونحن سمعنا أنها شكوى عامة فى جميع الأقسام حين مررنا على أقسام أخرى فيما بعد».
قصة أشرف مجرد واحدة من بين قصص عديدة وثقها تحقيق «المصرى اليوم» فى عدد من محافظات الوجهين القبلى والبحرى بالإضافة للقاهرة الكبرى، وتحتفظ بأوراق التحقيقات الرسمية التى أجرتها النيابات العامة، ويتعذر عرضها جميعًا نظرًا لمساحة النشر. من بين هذه النماذج، حالة أخرى ماتت فى أحد أقسام محافظة القليوبية.
مريض بالقلب اسمه شاكر محمد أبوعرب، 32 عاماً، وهو واحد من بين ثمانية آخرين فارقوا الحياة فى أقسام الشرطة فى محافظة القليوبية، خلال سبتمبر 2013، وفقاً للبيانات الرسمية لمديرية أمن القليوبية.
فبينما قالت مصلحة الطب الشرعى بمنطقة القليوبية إن وفاة شاكر جاءت نتيجة مرضه بالقلب، إلا أننا اطلعنا على ما يثبت أن قسم الشرطة رفض تحويله للمستشفى، رغم توصية طبيبين من مكتب الصحة، وطبيب ثالث من مستشفى القناطر، جميعها يوصى بضرورة نقله إلى المستشفى، وبعد ثلاثة أسابيع من احتجازه، كانت النتيجة وفاته.
حصلت «المصرى اليوم» على جميع الخطابات والوثائق الرسمية المتعلقة بحالات الوفاة فى هذا القسم، ومن بينها تحقيقات النيابة العامة. إلا أن التحقيق المتعلق بحالة موت شاكر أبوعرب انتهى بإدانة عائلته بالتعدى على أفراد قسم الشرطة بعد موت ابنهم.
تبدأ حكاية شاكر فى 7 سبتمبر 2013، حين قبض عليه من مسكنه بقرية «شلقان»، إحدى ضواحى محافظة القليوبية، فى واقعة سرقة بالإكراه، وحددت الجلسة الأولى للقضية بعد القبض عليه بـ17 يوماً.
دخل قسم شرطة القناطر ومعه تقرير طبى من مستشفى القناطر الخيرية المركزى، يفيد التقرير بأن لديه جرحا أسفل الكتف نتيجة جراحة قلبية لتركيب صمامين صناعيين.
قضى 3 أسابيع فى غرفة الحجز بقسم شرطة القناطر بين 12 محتجزاً فى غرفة صغيرة، وفق وصف النيابة الذى يقول: «أرض الحجز مغطى ببطاطين وأقمشة وعلى الحائط تعلق أكياس الأطعمة وملابس المحتجزين على مسامير».
بعد يومين من دخوله حجز قسم شرطة القليوبية بدأ يشتكى للمحتجزين من ألم فى صدره، بحسب شهادة المحتجزين أنفسهم خلال تحقيقات النيابة العامة التى حصلت على أوراقها «المصرى اليوم»، استطاعت والدته زيارته بعد أسبوع من احتجازه ورأت ذلك.
ذهبت إلى النيابة والتمست نقله إلى المستشفى. وأرسلت النيابة مع الأم خطاباً إلى قسم الشرطة، يسمح بانتداب طبيب من مستشفى القناطر الخيرية إلى القسم لتوقيع الكشف الطبى على المريض، وكلفت النيابة مأمور المركز بتقديم الرعاية الصحية والعلاج اللازم، وإثبات ذلك عقب تنفيذه لعرضه على النيابة، حيث يملك المأمور الصلاحية لنقل المحبوسين من عدمه طالما لم تكلفه النيابة بذلك.
بعد ساعات من تقديم الطلب وصل الدكتور خالد السيد عبدالوهاب، من مستشفى القناطر الخيرية لمركز الشرطة، أجرى الكشف الطبى وكتب فى تقريره أن «المريض يحتاج لعمل أشعة تليفزيونية على البطن وتحاليل دم وبراز فى صباح اليوم التالى، لتشخيص حالته»، وأرفق التقرير بمحضر حرره مركز الشرطة.
لكن مأمور القسم لم يسمح لشاكر بإجراء الأشعة والتحاليل المطلوبة، ولم ينقله إلى المستشفى كما أوصى الطبيب».
فى صباح يوم 21 سبتمبر 2013، أكمل المحبوس المريض أسبوعين فى غرفة الاحتجاز، توجهت والدته إلى مقر النيابة العامة فى نيابة جنوب بنها الكلية، وأخطرت المحامى العام أن مأمور قسم شرطة القناطر يمتنع عن نقل ابنها إلى المستشفى رغم مرضه المثبت فى محاضر طبية رسمية، وللمرة الثانية أرسلت النيابة إلى مأمور مركز شرطة القناطر الخيرية طلباً بتكليف مفتش صحة لتوقيع الكشف الطبى على «شاكر»، وبيان إذا كانت حالته الصحية تستلزم نقله لأحد المستشفيات من عدمه، وطلب منه تحرير تقرير طبى بعد الكشف.
وفى العاشرة من صباح نفس اليوم توجه الدكتور كريم محمد زكى، مفتش حدائق القناطر، وأوصى، بعرضه على طبيب متخصص فى القلب والأوعية الدموية، وقال إن «المتهم يعانى من آلام بالبطن، وضربات قلب غير منتظمة، وقياس ضغط دم غير منتظم، وضيق فى التنفس، وغثيان»، وحمل التقرير توقيع الطبيب وخاتم شعار الجمهورية، وقد أثبتت الواقعة فى محضر كتبه أمين شرطة يدعى عبدالناصر يوسف، ووقع عليه المأمور، حصلت «المصرى اليوم» على نسخة من هذا التقرير الحكومى.
للمرة الثانية يرفض مأمور القسم عرض المحبوس المريض بالقلب على طبيب متخصص فى الأوعية الدموية، ولم يتم نقله إلى المستشفى.
يقول الدكتور خالد سمير، أستاذ أمراض القلب والصدر بكلية الطب جامعة عين شمس، إن الكشف الأولى على المحتجزين يكون محصوراً فى تقييم حالة المريض وطلب عرضه على طبيب متخصص إذا استدعت حالته الصحية، وذلك لأن غالبية الوحدات الصحية يعمل بها «أطباء تكليف» تنحصر مهمتهم الأساسية فى التأكد من الوظائف الحيوية للجسم والحالة العامة للمريض وتحديد المشاكل الأساسية.
لم يشفع تقريرين لطبيبين مختلفين بـ«وجوب عرضه على طبيب متخصص فى أمراض القلب والأوعية الدموية»، زاد عليهم تقرير ثالث كتبته الدكتورة دعاء إبراهيم، مفتشة صحة من مستشفى القناطر الخيرية، أوصت بنقله إلى المستشفى أو عرضه على أخصائى أمراض قلب وأوعية دموية، وذيلت التقرير بختم شعار الجمهورية (حصلت الصحيفة على كل هذه التقارير).
بعد ساعات، جلس بـ«فانلة حمالات بيضاء وبنطلون أبيض» يستند إلى جدار الغرفة، يدلك صدره بكلتا يديه، أفرغ ما فى بطنه على أرضية الغرفة، واستمر فى التقيؤ طوال الليل، اصطحبه بعض المحتجزين إلى الحمام، ونظفوا ملابسه، وبدأوا فى طرق باب الغرفة استنجاداً بمسؤول السجن. وفى تمام الساعة 12:30 بعد منتصف الليل، وقبل ساعات من جلسة محاكمته، سمعت حراسة السجن استغاثات من المحبوسين، فحضرت الإسعاف ونقلته إلى المستشفى. لكن الطبيب الذى استلم شاكر فى الـ1 صباحاً كتب فى تقريره: «وصل المذكور إلى قسم الاستقبال جثة هامدة».
لم تقتصر وفاة المحتجزين داخل الأقسام على المرضى فقط. محتجز آخر لم يكن مريضاً، كان شاباً فى مطلع العشرين من عمره، أنهى عقوبته بالسجن وكان يستعد للإفراج عنه، سلبت حياته خلال 4 أيام فقط فى حجز قسم شرطة المطرية.
فى صباح الأربعاء 11 يونيو من عام 2014، لاحت على وجه الشاب أحمد ابتسامة عندما لمح من نافذة سيارة الترحيلات شوارع القاهرة، بعد عامين قضاهما فى سجن برج العرب بالإسكندرية.
قضى ليلة بقسم شرطة الخليفة، وثلاث ليال أخرى فى قسم المطرية، حيث تنتهى الإجراءات البيروقراطية لصحة الإفراج.
استلمه بقسم شرطة المطرية أمين الشرطة وصعد به إلى الحجز، يعزله عن الطابق الثانى باب حديدى ضخم أسود اللون، وراءه طرقة صغيرة مساحتها 12 مترًا، بها 4 أبواب مصفحة لونها أسود.
أوقفه أمين الشرطة أمام باب مكتوب عليه عنبر رقم «2»، وهى غرفة مربعة مساحتها 4x4 أمتار، ضعيفة الإضاءة، وتضم 67 محتجزاً، يعلقون أكياس الأطعمة والملابس على أحبال مربوطة بمسامير فى الحوائط الجانبية، بحسب معاينة النيابة خلال التحقيقات، التى حصلت «المصرى اليوم» على نسخه منها.
فى يمين الغرفة كانت تستقر دورة مياه عبارة عن حمام بلدى، يفصل بينها وبين الغرفة جدار أسمنتى واصل إلى السقف، وفى أعلى الجدار المقابل لباب الحجز نافذة صغيرة مثبت فيها أسياخ حديدية، وفى السقف 8 مراوح صغيرة معلقة حول مصباح كهربائى وحيد يتوسط الغرفة.
رآه والده بالقسم فى زيارة أخيرة أثناء دفع رسم 34 جنيهاً مقابل «صحة إفراج»، يقول: «فى الوقت ده قابلت ابنى، لقيته طالع من الحجز كأنه طالع من فرن، يكمل الوالد: «قابلت ضابط اسمه حسام حنفى، لم أكن أعرف اسمه وقتها، اشتكيت له وأخبرته أن ابنى تعبان، فضربنى على كتفى وقال لى: روح هاتله دكتور».
عاد أحمد إلى العنبر ومعه وجبة أحضرها له والده، تناولها مع أربعة محتجزين، بينهم عصام عبدالحميد سليمان، ومدحت عبدالمعطى، استمعت لهم النيابة أثناء التحقيقات فى وفاته.
فى ذلك اليوم سجلت درجة حرارة الجو إلى 35 درجة فى الصباح، حسب بيان درجات الحرارة المسجل على موقع أرصاد جوية خاص، ولم تقل فى ذات المساء عن 32 درجة، فى الوقت الذى كان يجلس فيه 67 محتجزاً فى غرفة مساحتها 4x4 أمتار، ينساب العرق من أجسادهم وتختلط رائحتهم بالروائح المنبعثة من الحمام وأدخنة السجائر.
شعر أحمد بضيق فى التنفس وسخونة تنبعث من جسده، وأصيب بإغماء ورعشات متواصلة، وفق شهادات المحتجزين خلال التحقيقات.
حاول محتجز يدعى إمام السيد إفاقته بتدليك صدره وتوقيفه ثم إسناده على حائط الغرفة، وهى الخطوة المعتمدة بين المحتجزين بالأقسام لمن يصاب بضيق تنفس، لكن أحمد لم يفق.
طرق المحتجزون باب الغرفة، وأخبروا أمين الشرطة المسؤول عن الحجز، فأتى بصحبته مسعف كان متواجداً بالقسم للكشف على محتجز بنفس العنبر يدعى أحمد الشافعى، وفقاً للتحقيقات.
دخل الضابط وأمين الشرطة والمسعف للعنبر وأخرجوا «أحمد» إلى ممر الحجز، يشاهدهم محتجزون مرضى بينهم محتجز يدعى محمد فوزى، قال فى تحقيقات النيابة: «حاول المسعف فتح عينيه المغلقتين، ثم نظر للضابط وقال له: لازم ينتقل إلى المستشفى فوراً».
واستلمه الطبيب، أحمد عبدالبديع، بمستشفى المطرية التعليمى، وكتب فى تقريره «حضر المذكور جثة هامدة ولا توجد أى علامات حيوية من ضغط أو نبض أو تنفس».
فى الساعة الثامنة صباحاً ذهب والد أحمد محمد إبراهيم إلى قسم المطرية، للاحتفال بخروج ابنه للحرية مرة أخرى، لكن ضابطاً يدعى محمود سلطان أخبره بوفاة ابنه.
فى شهادته أمام النيابة حمّل الوالد مسؤولية وفاة ابنه إلى النقيب حسام أشرف حنفى، الذى نفى خلال التحقيق معه أمام وكيل النيابة وجوده فى القسم وقت حدوث الواقعة أو رؤيته للأب والابن أثناء الزيارة، وأثبت مغادرته للقسم الساعة 9:30 من ليل 14 يونيو، من دفتر القسم.
لكن أحمد الشافعى، المحتجز بممر الحجز، قال إن النقيب حسام حنفى كان موجوداً بملابسه الميرى، وأضاف خلال تحقيقات النيابة: «النقيب كان شاهداً على واقعة نقل أحمد إلى المستشفى مع المسعف»، يقول: «أنا كنت تعبان بسبب كتمة الحجز لأنى عامل عملية فى بطنى، وطلبوا لى الإسعاف، بعد سمعت تخبيط على الباب والمساجين بيقولوا فى واحد بيموت، فخرجوه وحطوه جنبى على الأرض وكشف المسعف عليه، وقال للضابط ده لازم يروح المستشفى».
لم تجد النيابة إجابة فى شهادات المحتجزين عن سبب وفاة أحمد محمد إبراهيم سوى ضيق الحجز، واختناق المحتجزين من ضعف التهوية.
قال مدحت عبدالمعطى، أحد المتحجزين، خلال تحقيقات النيابة إن ضابطاً- لم يحدد اسمه- أتى بعد الواقعة مباشرة إلى الحجز، وسألنا إذا كان فيه حد تعبان؟ وبعدها أخرج عدداً من المحتجزين خارج الحجز.
فى استجواب العميد محمد على فتوح، مأمور قسم شرطة المطرية سأله وكيل النيابة:
- ما قولك فيما جاء فى معاينة النيابة للحجز رقم «2»؟
- يتم النظافة يومياً ولكن مع كتر العدد لازم يكون المكان مش نضيف، لأن السجون لا تأخذ المتهم المحبوس احتياطى جنائى فلا يتم عمل اعتماد لهم من قبل السجن إلا بعد أن يكون أخد حكم.
«يتوجه الاتهام إلى مَنْ؟» يجيب عن هذا التساؤل ناصر أمين، عضو المجلس القومى لحقوق الإنسان: «أقسام الشرطة تخضع لقواعد وإرشادات الرئيس الفعلى للقسم، ومن فوقه وزارة الداخلية، خصوصاً فيما يتعلق بمعاملة المحتجزين، والشىء الثابت داخل الأقسام هو سجل دفتر أحوال القسم، الذى يتم تسجيل كل شىء فيه، ما دون ذلك يتفاوت من قسم لآخر بحسب طبيعة القسم أو الحى الذى يقع فيه».
ويشير أمين إلى أن «اعتراف ضباط الأقسام بمشاكل التكدس داخل الحجوزات، يلقى المسؤولية مباشرة على الرئيس الأعلى سياسياً وهو وزير الداخلية».
لم يكن أحمد محمد إبراهيم هو المواطن الأخير الذى تنتهى حياته فى قسم المطرية، شهد القسم نفسه بعدها بشهرين وفاة مواطن يدعى أحمد بيومى، ثم وفاة ثلاثة مواطنين آخرين فى أقل من أسبوع واحد خلال شهر فبراير من عام 2015.
ووثقت منظمة العفو الدولية فى تقرير لها عن قسم المطرية أن الفترة ما بين إبريل 2014 إلى مارس 2015، فارق ما لا يقل عن تسعة معتقلين الحياة فى قسم شرطة المطرية. وأشارت إلى أن «التحقيقات التى أجريت حتى الآن فى حوادث الوفاة اتسمت بعدم الجدية، ولم يحاسب أى شخص».
حوادث الوفاة بأقسام الشرطة التى حققت بها «المصرى اليوم»، تتشابه: محبوسون احتياطياً يموتون داخل حجوزات أقسام الشرطة بسبب التكدس والإهمال الصحى، لكن حادثاً وقع بقسم شرطة المعادى كان مختلفاً تماماً.
فى فبراير من عام 2014 توفى محبوس احتياطياً صعقاً بالتيار الكهربائى، بعدما أمسك بسلك كهرباء عارٍ، وفقاً للرواية الرسمية، أكدها بعد ذلك المحتجزون خلال تحقيقات النيابة التى اطلعت عليها «المصرى اليوم».
حاولنا التواصل مع أهل المتوفى، لكنهم لم يرغبوا فى الحديث، أخبرنا شقيق القتيل أنهم لا يريدون استرجاع القصة مجدداً، بحجة أن «ليس للكلام فى الأمر من جدوى»، بحسب ما قال والده حينما قابلناه أسفل منزله.
لكن حادثًا مشابهًا جرى فى الصعيد، كان فرصة لنا كى نعرف كيف يمكن أن يموت مواطن «طفل» بحجز قسم شرطة صعقاً بالكهرباء، ومن المسؤول عن ذلك؟.
فى صباح حار من شهر أغسطس غادر إبراهيم أحمد إسماعيل، منزله بقرية القناوية بمركز نجع حمادى فى محافظة قنا، توجه إلى محطة القطار فى السادسة والنصف صباحاً حيث يعمل بائعاً جائلاً بين محطات القطار بالمحافظة.
لم يكن بلغ السن القانونية للحصول على بطاقة هوية وقتها. استقل القطار مع 12 بائعًا متجولًا، وأثناء عودتهم قبض عليه مع 5 باعة آخرين من على رصيف القطار، كانت تهمته وفق المحضر رقم 5155 «بيع مياه داخل قطار نجع حمادى».
فى تمام الساعة 2 من ظهر اليوم نفسه انتقل الباعة الخمسة إلى قسم شرطة نجع حمادى، كان فى استقبالهم 17 محتجزاً، أحدهم كان يقضى حكماً بالسجن 25 عاماً بحسب سمبل، «كان يجلس على بطاطين ووسادة داخل الحجز، بعيداً عن حمام داخلى من غير مياه بالغرفة».
انساب العرق من الأجساد المتلاصقة فى ظهيرة أغسطس، وانقطعت الكهرباء 3 مرات خلال الساعات الأولى من دخولهم إلى الحجز، فتعطل الشفاط عن العمل وساءت التهوية داخل الغرفة، أخبرهم مندوب الحجز أنه سيشغل المولد فى القسم، كان إبراهيم وقتها يستند بجسده إلى باب الحجز، بحسب شهادة المحتجزين بالتحقيقات.
حين سحبت سكينة الكهرباء، فجأة، تناثرت أجزاء اللمبة المعلقة فى سقف الغرفة بعد أن انفجرت، وسرى تيار كهربائى من الباب إلى أرضية الغرفة المبللة، وصعقت الكهرباء المحتجزين.
فى شهادته أمام النيابة، التى حصلت «المصرى اليوم» على نسخة منها، قال محمد عاطف: «فجأة الكل بقى يتنفض، وبقينا نرفس فى الأرض، ودخلنا فى غيبوبة، وهدومنا كانت عرقانة جامد، والمكان كله مكهرب».
بينما تقول الرواية الرسمية لمديرية أمن قنا: «إن وفاة المحتجز إبراهيم أحمد إسماعيل، المحبوس على ذمة القضية رقم 5155، نتيجة اختناق بسبب انقطاع الكهرباء وتوقف المراوح»، وأثبتت لجنة من هندسة كهرباء نجع حمادى، انتدبتها النيابة لمعاينة الحجز، أن «الكهرباء تصل إلى الحجز بين توصيلات عشوائية مربوطة مع بعضها بأكياس بلاستيكية، وتعتبر غير مطابقة للمواصفات الفنية، وتمثل خطورة لأى شخص يلمسها».
وحين عاد رئيس شبكة كهرباء نجع حمادى للنيابة قال فى شهادته إنه حين فصل التيار الكهرباء وأوصل الديزل، اكتشف وجود ماس كهرباء يجرى فى الحوائط والباب الحديدى حين لامسها بـ«مفتاح تست».
خلال الشهر نفسه، أغسطس 2014، أذاعت وسائل إعلامية تصريحات لقيادات بوزارة الداخلية أفادت، عبر تركيب تكييفات، وبناء سجنين جديدين للحبس الاحتياطى على أطراف القاهرة لتفادى التكدس فى أماكن الاحتجاز، ورصدت قنوات إعلامية من خلال مأمورى الأقسام أن الخطوة جاءت بتعليمات صدرت من مدير الأمن العام.
لكن فى 25 سبتمبر 2014، سمع رئيس نيابة الهرم، وائل خشبة، صراخاً بقسم شرطة الهرم أثناء وجوده لحصر ضبطية أقراص مخدرة بالقسم، واكتشف إصابة 61 محتجزاً بـ«الجرب». تورمت أطراف المحتجزين فى القسم وظهرت تقرحات دموية ونزيف جلدى مع حكة شديدة، فانتدبت النيابة لجنة من مكافحة الأوبئة لتطهير القسم من البكتيريا والأمراض المعدية، ونقلت المحتجزين داخل حجر صحى خاص بأحد معسكرات الأمن المركزى بأكتوبر.
وفى إبريل 2015، بعد نحو ٨ أشهر من تصريحات قيادات أمنية فى وزارة الداخلية تركيب تكييفات وشفاطات هوائية لتحسين أوضاع المحتجزين، مات اثنان من المحتجزين فى قسم شرطة مصر القديمة خلال أسبوع واحد.
فتحت النيابة تحقيقاً وانتدبت لجنة من مصلحة الطب الوقائى للمرة الثالثة، كانت الدكتور وفاء شلبى، أحد أعضائها، فزارت قسم مصر القديمة بعد عام من زيارتها قسم دار السلام، تقول: «فى مصر القديمة كانت أعداد المحتجزين أكثر من دار السلام. غرف مقسمة بالعرض كى تستوعب أعداداً أكبر أثناء النوم». مضيفة: «الفرق بين الزيارتين سنة كاملة، ولم يحدث أى تحسين لظروف الاحتجاز».
حاولنا التواصل بشكل رسمى مع قيادات الوزارة طوال فترة إعداد التحقيق، ومنحهم حق الرد على المستندات الرسمية التى حصلنا عليها، لكن لم نتلق أى رد.
تم إنجاز هذا التحقيق بدعم من شبكة (أريج) إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية