لماذا يخاف «الشيوخ» من الكُتب والفلسفة؟

أحمد الشهاوي السبت 20-02-2016 21:40

السلطان وتاجر الدين وحدهما، هما من يسعيان إلى تغييب الكتاب وإلغائه، وسجنه وراء نار الحرق أو قضبان الرقابة، إذ يعتقدان أن الكتابة تُقوِّض أركانهما، لأن الحرف يكشف، ويهتك، وهما يخشيان الفضح والكشف، ويحبان دومًا أن «يلعبا» من وراء حجاب، وتلك طبيعة أصحاب الرأى الأوحد، والانفراد بالقرار.

لكنهما لا يريدان أن يعرفا أن الحرف يبنى، ويربِّى، ويعلِّم، ويطرد الجهل من البيوت، ويحارب الظلام، وأنه ضد الحرب والتعصُّب والتزمُّت، ويُعمِّر، ويحافظ على الهُوية، بل يراه ابن خلدون (غرة رمضان 732هـ/27 من مايو 1332- 19 من مارس 1406م/26 من رمضان 808هـ) في مقدمته: «من توابع العمران».

وهما أيضًا يدركان أن من يقتل كتابًا، كأنه قتل إنسانًا، لأنه بالفعل يقتل صاحبه، كما أن القتل يحرم كثيرين من المعرفة، وبناء النفس، وعمران الروح.

وليس أمامى سوى أن أُشبِّه هؤلاء الذين يقفون للكتاب بالمرصاد بالمغول، الذين استولوا على بغداد في سنة 656 هجرية، ولم يبقوا كتابًا واحدًا إلا أتلفوه، كما رموا مئات الآلاف من الكتب في نهر دجلة، في مشهدٍ همجىٍّ بربرىٍّ لن يُمحى من التاريخ، لأن من يفعل ذلك، هو عدو للحضارة والمعرفة والمدنية.

وما حدث للكتاب في بغداد من طرف المغُول، حدث مثيلٌ له من العرب المسلمين خلال «فُتوحاتهم» لدولة الفرس، فيكتب ابن خلدون «وألقيت كتب العلم، التي كانت بخزائنهم جميعا في دجلة، وكانت شيئا لا يعبر عنه، مقابلة في زعمهم بما فعله المسلمون لأول الفتح في كتب الفرس وعلومهم».

لكن المشهد الهمجى سيتكرر مع الكاردينال الإسبانى أكسيملس الذي أحرق ما يزيد على ثمانية آلاف كتاب، كانت موجودةً في مكتبات غرناطة بعد سقوطها، وخروج العرب منها في الثانى من ربيع الأول سنة 897 هـجرية ما يوافق الثانى من يناير 1492سنة ميلادية، بتسليم الملك أبوعبدالله محمد الصغير إياها إلى الملك فرديناند الخامس بعد حصار دام تسعة أشهر، أي أن القتل والمُلاحقة والحرق والحصار كان للكتاب والإنسان معًا، واستمر الحرق والإتلاف خلال نصف القرن من الزمان، حيث كانت القوانين قد صدرت آمرةً بإبادة كل كتاب مكتوبٍ بالعربية.

وهناك بعض الذين يحاربون الكتب، خُصوصًا الفلسفية منها،

مثل أبى حامد الغزالى (450 هـ- 505 هـ / 1058م- 1111م) الذي كره الفلسفة ومن اقترب منها، وألَّف كتابًا في ذمِّها هو «تهافت الفلاسفة»، كتبه في بغداد سنة 1095 ميلادية،

وفى توطئة كتابه يذكر: «ابتدأت لتحرير هذا الكتاب، ردًّا على الفلاسفة القدماء، مُبيِّنًا تهافت عقيدتهم، وتناقض كلمتهم، فيما يتعلَّق بالإلهيات، وكاشفًا عن غوائل مذهبهم، وعوراته التي هي على التحقيق مضاحك العقلاء، وعبرة عند الأذكياء، أعنى ما اختصوا به عن الجماهير والدهماء، من فنون العقائد والآراء»، ويرتئى الغزالى (وهو زعم أو ادَّعاء، ردَّ عليه الكثيرون من أمثال: ابن باجه وابن طُفيل وابن رشد) أن الفلاسفة المسلمين «قد رفضوا وظائف الإسلام من العبادات، واستحقروا شعائر الدين من وظائف الصلوات، والتوقِّى عن المحظورات، واستهانوا بتعبدات الشرع وحدوده، ولم يقفوا عند توفيقاته وقيوده، بل خلعوا بالكلية ربقة الدين، بفنون من الظنون. يتبعون فيها رهطًا يصدُّون عن سبيل الله، ويبغونها عوجًا، وهم بالآخرة هم كافرون، ولا مستند لكفرهم غير تقليد سماعى، ألفى كتقليد اليهود والنصارى. إذ جرى على غير دين الإسلام نشؤهم وأولادهم، وعليه درج آباؤهم وأجدادهم، لا عن بحث نظرى، بل تقليد صادر عن التعثُّر بأذيال الشبه الصارفة عن صوب الصواب، والانخداع بالخيالات المزخرفة كل مع السراب. كما اتفق لطوائف من النظار في البحث عن العقائد والآراء من أهل البدع والأهواء»، حيث رأى الفلاسفة أنهم «منكرون للشرائع والنحل، وجاحدون لتفاصيل الأديان والملل، ومعتقدون أنها نواميس مؤلفة، وحيل مزخرفة».

وقد أشار أبوحامد الغزالى في تقدمته لكتابه «تهافت الفلاسفة» إلى أبى نصر الفارابى، وابن سينا، واعتبرهما من المتفلسفة لا من الفلاسفة، كما رآهما من الضَّالين.

وقد رد عليه ابن رشد (520- 595 هـ = 1126-1198م) بكتاب سماه «تهافت التهافت»، وضعه ابن رشد سنة 1180 ميلادية أي بعد نحو ثلاثة أرباع القرن، في حوارٍ موضوعىٍّ وبنّاء، ونزيه، لأن ابن رشد – أساسًا – فيلسوف لم يسع، ولم يطمح يومًا إلى تأسيس مذهبٍ يختص به، ولم يكن ينتمى إلى فرقةٍ من الفرق الكلامية، وأيضًا لم يكن يومًا خادمًا أو تابعًا لأحدٍ في بلاط الحكَّام، ولم يداهن أو يُمالئ أو يتملَّق أو ينافق، بل زهد السلطة والمنصب والمال، ولم يكن متشدِّدًا كغيره.

ولم يسلم ابن رشد بعد ذلك من النفى من قرطبة، وحرق كتبه الفلسفية، حيث تركت كتبه في الطب والحساب وعلم النجوم، ورميه بالكُفر والابتداع، والخرُوج على الدين، في مشهد احتفى به مناوئوه من الأئمة والفقهاء المتشدِّدين من الأشاعرة الذين يمثِّلون مذهب الدولة الرسمى في ذلك الزمان، ولم يكن الدين دافعهم إلى ذلك، بل هو الحسد والحقد والغيرة من رجلٍ ندر وجوده، وقلَّ نظيره.

وقد تجرَّع الغزالى (الأشعرى) من الكأس نفسها، كأس الزندقة والتكفير بدلا من المساءلة والتفكير، وقد أمر يوسف بن تاشفين (400- 500 هـ / 1009- 1106 م) بحرق كتبه، وصدرت فتوى من قاضى قرطبة بأن الغزالى مبتدع وزنديق، وإحراق كتابه «إحياء علوم الدين» في ميدان أمام المارة، وصدر قرار بإعدام كل من يقرأ الكتاب.

كتاب الغزالى تهافت الفلاسفة لم يخل من السبِّ واللعن والشتم وتكفير الفارابى وابن سينا، رغم أنه كان ضعيف البرهان، وركيك الحُجَّة، وكان يغيِّر ويبدِّل أقوال الفلاسفة «ويأخذ ما يلائمه ويُهمِل ما لا يعجبه»، ولذا لا عجب أن نرى «شيوخًا» يلعنون ويسبُّون ويشتمون ويكفِّرون في زماننا هذا، وفى أزمنةٍ مقبلةٍ لن نعيشها، لكننا يمكن أن نحدس بها، طبقًا للمقدمات التراثية والراهنة على حدٍّ سواء، كأن السبَّ صار سُنَّةً، بديلا عن الجدال بالحُسنى، وكأن هؤلاء الشيوخ لا يدركون آداب الحوار في الإسلام، وهى مطروقة ومتداولة ومعروفة، ومتاحة للمبتدئ قبل الدارس والمتخصص.

وإذا كان الغزالى هو صاحب هذه الجملة «عند الشدائد تذهب الأحقاد»، فلم نجده يعمل بها، حيث كان المسلمون في حاجة إلى العلم والمعرفة والبحث والفلسفة، بدلا من اتهام الفلاسفة بالكُفر وهم – في الأصل – أهل تفكيرٍ، وليسوا أهل تكفير.

ahmad_shahawy@hotmail.com