«العصار».. وسد النهضة

رجب جلال الجمعة 19-02-2016 21:36

توقفنا فى أزمة سد النهضة عند الجولات المكوكية للمفاوضات الفاشلة أو شبه الفاشلة حتى الآن، والموقف الغامض للسودان من الأزمة، انشغلنا بكل ذلك دون أن نعمل على مواجهة احتمالات منع المياه عن مصر طوال مدة ملء السد.

أقل ما يجب فعله لمواجهة «الجفاف» المتوقع هو تغيير ثقافتنا فى التعامل مع المياه التى ننفق منها إنفاق من لا يخشى السد، ونتفنن فى إهدارها رغم شبح الأزمة الذى يطاردنا منذ خمس سنوات، ورغم أن ديننا يعلمنا «الاقتصاد ولو كنا على نهر جار»، لكننا نفقد عشرات المليارات من الأمتار المكعبة فى غسل السيارات، ورشّ الشوارع، ورى الحدائق وملاعب الجولف، ولا يهتز لنا ضمير ونحن نترك الصنابير تالفة تتساقط منها قطرات المياه على مدار الساعة، أو مفتوحة أثناء الحلاقة وغسل الأسنان، أو انتظاراً لتسخينها، ناهيك عن «شدة السيفون» التى تستهلك 9 لترات فى المرة، بعيداً عن السيفونات التالفة.

هذه الثقافة لن تتغير بإعلانات تليفزيونية تافهة، أو بإرشادات على أغلفة الكتب المدرسية، أو حملة «إنقاذ النيل» التى تكلفت ملايين الجنيهات، وانتهت بمنح شهادات تقدير للفنانين والرياضيين والقساوسة المشاركين فيها، ولم تترك عند مشاهدى التليفزيون أثراً يساوى حتى الحبر الذى كُتبت به الفكرة.

دعونا نعترف بأن ثقافة هذا الشعب لا يغيرها إلا ما يكلفه اقتصادياً، المال فقط هو الذى يؤلم السواد الأعظم منا، انظر إلى الثقافة التى أحدثها الهاتف المحمول، فكل شخص أصبح مهتماً برصيده، بكم تكلم، وبكم أرسل رسائل، وكم فقد، وأى الباقات أوفر له، وهكذا، ولا أقول إن الحل هو رفع أسعار المياه، فحتى هذه الخطوة لا تغير سلوكياتنا بالقدر المطلوب، لكننى أرى الحل فى أن نتعامل مع المياه بنفس طريقة تعاملنا مع المحمول.

العداد الذكى هو الذى أقصده، عداد مياه مدفوع مقدماً بنفس أسلوب كارت الشحن، ومتصل بتطبيق على هواتفنا نعرف من خلاله كم لتراً استهلكنا، وكم تبقى، ومتى يجب إعادة الشحن، وترجمة كل ذلك إلى أموال، فيعيد كل رب أسرة حساباته فى التعامل مع المياه، ويقتصد بشدة كلما «أوشك رصيده على النفاد»، وسينهر رعيته كلما رآهم يهدرون، وسيحرص على إصلاح كل ما تلف من مشتقات السباكة، وعند ذلك ستتغير الثقافة بسرعة البرق، وتنتشر السلوكيات فى المجتمع أسرع ملايين المرات من خطب الترشيد، وإعلانات الإنقاذ، ومبادرات الحفاظ على شريان الحياة، ليعلم «كل أناس مشربهم».

لدينا تجربتان رائدتان فى إنتاج العدادات الذكية المدفوعة مقدماً، الأولى تقودها وزارة الإنتاج الحربى عبر مصانعها المنتشرة فى عدد كبير من المناطق، لكنها مازالت تنتج أعداداً ضئيلة منها، والثانية مصنع خاص يقع ضمن مشروع الألف مصنع الذى يرعاه الرئيس عبدالفتاح السيسى، بالقاهرة الجديدة، هو مصنع «تى إم جروب» الذى فوجئت بأن صاحبه المهندس محمد حسين عويضة وفر لمشروع «مدينتى» وغيره من المشروعات السكنية المغلقة ملايين العدادات من هذا النوع، والأمر الآن فى يد اللواء محمد العصار، وزير الإنتاج الحربى، الذى يمكنه عرض الأمر على رئيس الجمهورية، ومجلس الوزراء، ووزير الإسكان، ورئيس الشركة القابضة للمياه، للوصول إلى قرار بتركيب العدادات المدفوعة مقدماً (مع عدم رفع سعر المياه) لكل البيوت المصرية، وليكن على مراحل تبدأ من المدن الجديدة، ثم المناطق الراقية فالأقل وهكذا، ولتكن هناك خطة لتعميم الفكرة، خلال ثلاث سنوات مثلاً، وليتعاون مع صاحب المصنع الخاص لإنتاج نحو 25 مليون عداد بعدد منازل مصر، عندها فقط يمكن أن نقول إن سد النهضة لم يؤثر علينا.