عاد الرئيس عبدالفتاح السيسى من آخر مؤتمر قمة أفريقى بكثير من النوايا الحسنة للتعاون مع الأخوة الأفارقة فى العديد من القضايا الحيوية الأمنية والتنموية، بما فى ذلك الشأن المائى الذى أصبح هماً مصرياً، منذ بدأت إثيوبيا فى بناء سد النهضة، لتوليد كهرباء هى فى أشد الحاجة إليها لخططها التنموية الطموحة، ودعم اقتصادها الذى ينمو بأعلى مُعدل سنوياً فى القارة الأفريقية (70%).
والذى ربما لا يعرفه كثيرون أن هناك عدة دول أفريقية أخرى، مثل إثيوبيا حققت مُعدلات تنمية عالية خلال العقد الأخير، منها جنوب أفريقيا، وتنزانيا، وبتسوانا، وزامبيا. أى أن أفريقيا جنوب الصحراء هى منطقة النمو الواعدة فى النصف الأول من القرن الحادى والعشرين، كما كانت منطقة شرق آسيا هى رائدة النمو الاقتصادى فى النصف الثانى من القرن العشرين. وهو ما أدركته الصين، فاندفعت بكل قوتها الاقتصادية والتكنولوجية إلى أفريقيا فى السنوات العشر الأخيرة.
كما أن الرئيس السيسى يفتتح فى شرم الشيخ اليوم (20/2/2016) مؤتمراً للاستثمار فى أفريقيا. وعلى مصر، بدلاً من الندم على إهمالها للشأن الأفريقى طوال العقود الأربعة الأخيرة، أو الخوف مما هو قادم، أن تكون مُبادرة ومُبدعة ومُقتحمة. مُبدعة بأن تطلب من مُفكريها وعُلمائها أن يشحذوا خيالهم وعقولهم لصياغة مشاريع مصرية ـ أفريقية، تأتى على الجميع بالخير والنماء.
ويمثل هذا المقال مُحاولة متواضعة من أجل مشروع فى هذا الصدد. والمشروع هو تشييد خط حديدى يربط بين الإسكندرية فى أقصى شمال القارة، وكيب تاون فى أدنى جنوبها، وهو مشروع يستفيد منه مُباشرة عشرة أقطار أفريقية فى شرق القارة وجنوبها ـ وهى مصر والسودان وجنوب السودان، وأثيوبيا، والصومال، وإريتريا، وأوغندا، وكينيا، وناميبيا، وجنوب أفريقيا، يصل حجم سُكانها مجتمعة أكثر من ثلاثمائة مليون إنسان إفريقى.
وسيكون هذا الخط الحديدى المُقترح للبسفور من أطول خطوط السكك الحديدية فى العالم، ولن يُنافسه طولاً إلا خطّان، أولهما الخط الذى يبدأ من العاصمة الصينية بكين فى أقصى الشرق إلى إسطنبول عاصمة تركيا التجارية على الشاطئ الأوروبى أدنى الشرق. وثانيهما، خط الشرق السريع، (أورينت إكسربيس) (Orient-Express)، الذى كان قد توقف منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، ثم بعثته فرنسا جزئياً، أوائل هذا العام (2016) من باريس إلى فيينا، توطئة لاستكماله من فيينا إلى إسطنبول.
كما أن شركة فرنسية قد شرعت فعلاً فى إنشاء خط حديدى من غرب أفريقيا على المحيط الأطلنطى إلى مقديشيو الصومالية شرق أفريقيا على المُحيط الهندى.
وكما هو معروف جغرافياً فإن تشييد أى طريق برى أو حديدى، سرعان ما تنمو على جانبيه مراكز عمرانية ومجتمعات محلية عديدة. ولذلك فإن مثل هذا الخط الحديدى المُقترح من الإسكندرية إلى كيب تاون، والذى سيصل طوله إلى حوالى سبعة آلاف كيلومتر، سيدفع بمسيرة التنمية العمرانية والاقتصادية قفزات هائلة إلى الأمام.
صحيح أن تمويل هذا الخط الحديدى ربما يتجاوز خمسين مليار دولار. وهو مبلغ ضخم، فوق طاقة مصر وحدها حاضراً وفى الأمد المنظور، وفوق طاقة أى دولة أفريقية مُنفردة، ولكن لحُسن الحظ أن هناك بنكاً أفريقيا للتنمية وهناك اهتماماً صينياً غير مسبوق بأفريقيا. فقد دخلت الصين شريكاً أو طرفاً تنموياً فى كل بلد أفريقى من بُلدان القارة الخمسة والخمسين. وبالتالى فهى القوة الأعظم فى العالم اقتصادياً، ومُرشحة أن تكون كذلك عسكرياً. وهى تدرك أن أفريقيا قارة بِكر، وأن مستقبلها الاقتصادى هو الأكثر وعداً، خلال الرُبع القرن القادم، إن لم يكن بقية القرن الحادى والعشرين بأكمله.
إن الخطاب الذى ألقاه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى افتتاح الدورة الجديدة للبرلمان المصرى كان خطاباً عاقلاً ومتوازناً، ولكن كانت تنقصه الحرارة والرؤية الإقليمية الأكبر، التى تشمل دول الجِوار، جنوباً، وهى البُلدان الأفريقية، موضوع هذا المقال، وكذلك دول الجِوار، شرقاً وغرباً، أى بقية بُلدان الوطن العربى. فمن نافلة القول أن مصر ليست ولن تكون جزيرة معزولة عن مُحيطها الإقليمى. ولذلك لا بد أن يعمل الرئيس السيسى ومُعاونوه على صياغة مشروع تنموى إقليمى عربى، ربما تكون نواته أيضاً خطاً حديدياً آخر يتجه شرقاً، عبر فلسطين وبلاد الشام وشمال العِراق، وعبر هضبة الأناضول التركية، ويعبر البسفور إلى إسطنبول.
فإذا استكملت فرنسا خط الشرق السريع من باريس إلى فيينا، فسيكون من السهل عمل وصلة له من فيينا إلى إسطنبول، وبهذه الطريقة يكون هناك خط حديدى عملاق يبدأ من القاهرة فى أفريقيا إلى دمشق فى آسيا، إلى إسطنبول وكل من فيينا وباريس فى أوروبا. وكما ربطت مصر من خلال قناة السويس بين الشرق والغرب، فإن مصر مرة أخرى ستربط بين أفريقيا، فى أقصى الجنوب وأوروبا فى أقصى الشمال.
إن كل المشروعات الكُبرى فى التاريخ بدأت بفكرة. فلعل هذه الفكرة، تكون بداية لمشروع واعد.
وعلى الله قصد السبيل.