حالات تنمر أمناء الشرطة -التي بات صعبًا أن نعتبرها فردية- هل يمكن بأي شكل من الأشكال أن تكون ضمن مخطط«عُرفي»-برضا رسمي- لكسر شوكة الشارع الذي استحق التأديب على ما اقترفته يداه من تمرد على نعمة الأمن التي يوفرها له أسياده؟
هذا سؤال صعب ومرير، ولكنه في الواقع بات من المستحيل تجاهله.
كان من الممكن اعتبار الأمر حالات فردية، أو حتى التعامل مع ملف أمناء الشرطة كملف مستقل تُدرس فيه دوافعهم الداخلية أو الخارجية لهذا التنمر، ومحاولة تصحيح أوضاعهم وتطوير أحوالهم باعتبارهم منظومة مهمة لا يمكن الاستغناء عنها، بل ينبغي تطويرها ورعاية أفرادها وإصلاح علاقاتهم بالمجتمع وتقنينها بما يحقق الرضا للجميع.
كان هذا الأمر ممكنًا – وما زال، ولكنه لأسف لن يستمر طويلًا.
فالسؤال السابق – على صعوبته- يكتسب شرعية عميقة في كل يوم بسبب موقف وزير الداخلية السلبي، وبسبب غياب موقف رسمي حازم وواضح من رئيس حكومة مصر بوصفه مسؤولًا عن هذا الوزير... وعن هذا الأمر. وبسبب الغموض الذي تُدار به القضايا في رحلتها بين طرفيها التنفيذي والقضائي، وبسبب تلك الميوعة التي يتعامل بها مجلس نواب الشعب مع الملف؛ فإلى الآن لم نسمع عن طلب جاد لاستجواب وزير الداخلية بهذا الشأن، رغم أن الأمر يستدعي استجواب الحكومة بأكملها!
هل يشعر أمناء الشرطة أن حقهم مغبون وأنهم يقومون بدور أكبر بكثير من نظرة المجتمع لهم، والأهم أنه أكبر من دخلهم الرسمي، وبذلك فإنهم (الحديث هنا بالطبع لا يشمل الجميع) يلجؤون إلى وسائل أخرى لزيادة هذا الدخل ومعادلة الوضع الاجتماعي المفتقد؟
هذا سؤال يحتاج من الحكومة تدخلًا سريعًا للدراسة وتقديم الحلول.
تعالوا ننظر إلى الأمر من زواية أخرى لنرى مدى صحة نظرية الأخطاء الفردية في حالة أمناء الشرطة.
الحالة العامة للمجتمع المصري -التي لا تخفى على أحد- باتت فيها فكرة «التحية والاصطباحة والشاي والسجاير وحلاوتنا وهات حاجة للعيال. . .» وغيرها من مسميات تلطيفية للرشوة –أمورًا تقليدية لا يشعر الناس بالحرج في ممارستها منذ عقود.
مع استقرار المستوى السابق من «الحلاوة والاصطباحات» كان لابد من التطور -باعتباره سنة الكون، فتفقتقت العبقرية المصرية المعاصرة عن أنظمة أخرى أكثر تطورًا منها سماسرة تخليص المعاملات في المصالح الحكومية، وهم بشر مدربون على التقاط الزبائن من أمام أبواب المصالح مقابل أسعار محددة، ولا تنقضي مصالح المواطنين من غيرهم. وبذلك يصبح الموظف بعيدًا عن قصص الاصطباحة والتحية التي لا مانع منها أحيانًا (فزيادة الخير خيرين)، وقد استشرت هذه الأنظمة وتعقدت وتحولت إلى شبكة من الميليشيات التي تحكم الوسط الإداري الحكومي في مصر.
وسط صورة كهذه تُرتكب ملايين «الأخطاء الفردية» في كافة مصالح وهيئات وإدارات الحكومة المصرية، وتتدفق مليارات الجنيهات من جيوب المواطنين مع طلعة كل صبح إلى دائرة تلك الميليشيات الحاكمة لمصر، وليس سهلًا على أحد السيطرة على الأمر ولا الإمساك بخناق شخص بعينه لتوجيه التهمة له. وهكذا تفرق دم المصريين بين «ميليشياتهم».
من هذه الصورة، تعالوا من فضلكم نعود إلى ملف أمناء الشرطة.
تتشابه منظومة أمناء الشرطة مع بقية منظومات الحكومة المصرية في الكثير من الأمور بما فيها منظومة «الحلاوة والاصطباحات»، إلا أن الاختلاف الرئيسي والخطير يكمن في طبيعة الخدمة التي يدفع المواطن من أجل الحصول عليها.
في المصالح الأخرى لا تتعدى الخدمات تسريع استخراج ورقة أو إنجاز معاملة مدنية، أو الحصول على تصريح بناء بالمخالفة، أو تخصيص شقة أو قطعة أرض، أو حتى تزوير وثيقة رسمية.. . (اترك لخيالك العنان)، إلا أن معظمها أمور يمكن التستر عليها، ويضمن بقاءَسريتها أن منطقها-عادة- لا يكون حرمان أحد من حقه بل تغريمه «الحلاوة» مقابل الحصول على هذا الحق، وبذلك يظل الأثر محصورًا في حدود أطراف المصلحة-في أغلب الأحيان.
الفارق إذن بين منظومة أمناء الشرطة وبقية منظومات الحكومة المصرية يكمنفي طبيعة الخدمات التي يُفترض أن يحصل عليها المواطن نظير الحلاوة أو الاصطباحة. وهو فارق دقيق ومخيف لأنه يتعلق بالوظيفة الوحيدة –تقريبًا-التي لا يمكن أن تقدمها سوى الدولة: الأمن.
وعلى الرغم من خطورة هذا الفارقالواضحة،إلا أن وضوحها يزداد رعبًا عندما نلقي عليها مزيدًا من الضوء من زاوية المقارنة بين طبيعة السلطة التي يملكهاكل موظفيالحكومة من جهة.. . وما يملكه أمناء الشرطة من جهة أخرى.
إن طبيعة السلطة التي يمتلكها الأمناء – باعتبارهم أحد أدوات الجهة الرسمية الوحيدة المسموح لها، بحكم الدستور، باستعمال القوة والعنف لتنفيذ القانون- تجعلنا نعيد صياغة السؤال ليتحول من مساحة: ما الخدمة التي يدفع المواطن نظير الحصول عليها؟إلى مساحة: ما الأضرار والمخاطر التي يُضطر المواطن للدفع من أجل عدم التعرض لها؟
هنا يتحول الخطأ الفردي من منظومة أمناء الشرطة إلى قضية رأي عام، لأنه أولًا خرج عن عرف «الحلاوة والاصطباحات» الحكومي الذي يدفع المواطن بموجبه نظير حقه في الحصول على خدمة، فلم نجد أحدًا يشكو من سداده «رشوة» نظير تخليص معاملته. ليصبح قضية مواطن يتعرض للعقاب لأنه لم يدفع لموظف حكومي نظير إعفائه من قدرته على التنمر والبطش به، وكأن المواطن ليس مواطنًا في دولة مصر وإنما في دولة أمناء الشرطة!
هل يمكن أن نعيد النظر في الأمر من هذه الزاوية!
هل يمكن أن نطرح القضية بهذه الصيغة دون أن يكون ذلك اعترافًا منّا بشرعية تقليد «ادفع تمر» –العرفي- الذي ترفعه المنظومة الحكومية؟
هل يمكن أن نقول ذلك بارتياح ونحن نعرف أن آلاف الموظفين- بمن فيهم أمناء الشرطة- شرفاء ومحترمون؟
هل من الكثير علينا أن نطلب من رئيس حكومة مصر ورئيس مصر، أن يفتحا ملف أمناء الشرطة بجدية تتفق مع خطورته، لإنقاذ منظومة أمناء الشرطة -على الأقل- من الطفح الذي يستشري في أوصال منظومات الحكومة والذي نقدر مدى صعوبة مكافحته دفعة واحدة؟
لا نتحدث عن فتح الملف بمعنى فرض عقوبات أو جزاءات أو سن قوانين متسرعة توغر الصدور، إنما بمعنى دراسة منهجية دقيقة وحاسمة وشاملة للملف بهدف تطوير منظومة الأمن وتحقيق رضاء أفرادها وتفعيل أدواتها وضبط قواعدها وتحسين شروطها وتنظيف قنوات تواصلها مع المجتمع.
إن لم يحدث ذلك، فإن سؤالي الذي افتتحتُ به المقال يكتسب شرعيته الأكيدة.
وبلّغ سلامي للنوايا الطيبة.