ازدراء الأديان أم اكتمال الأديان؟

حسن حنفي الأربعاء 17-02-2016 21:41

عنوان متناقض. فالازدراء يعنى الرفض والاحتقار والاستبداد. والاكتمال هو الوصول إلى الغاية القصوى كالزرع عندما يكتمل. والطفل عندما ينمو. الازدراء موقف سلبى. والأديان فى الوعى الشعبى موقف إيجابى. والدين مثل العلم والفن والجمال لا يكون إلا جميلا لما يدعو له من عدل وحرية وكرامة إنسانية. ومن ثم لا يكون محط ازدراء. فالله جميل يحب الجمال. والطبيعة جميلة والإنسان جميل.

ولا يكون الازدراء إلا فى الإعلام بغية الشهرة ومن أجل الإثارة الذهنية والاجتماعية، من أجل أن يحصل الإعلامى على منصب أو ترقية بعد أن خفض صوته وقل متابعوه وأصبح لا يصدقه أحد. أما الدين فهو موضوع علمى، موضوع علم تاريخ الأديان أو فلسفة الدين. يدرس فى الجامعات وفى أقسام الفلسفة من متخصصين. لهم دراسات علمية فى الموضوع. ولهم فيها مدارس عديدة، ومناهج متعددة، ونتائج مختلفة. هناك ديانات شرقية مثل الكونفوشوسية، وأخرى إبراهيمية توحيدية مثل اليهودية والمسيحية والإسلام، وديانات صوفية، فردية روحية، كالبوذية والهندوسية. وأخرى اجتماعية مثل بعض الديانات الأفريقية واليهودية والإسلامية. لذلك هل يجوز للعلماء تناول هذا الموضوع العلمى بطريقة الصحافة التى قد تؤدى إلى زيادة الانفعالات والأحكام بالكفر والإلحاد بل وبالإعدام مما يضطر البعض إلى الهجرة خارج البلاد وتركها والربط بين تاريخه المعاصر وتاريخ ابن رشد. طمعا فى الشهرة مادام العلم قد توقف. أم من الواجب الدخول فى هذا الجدل لإزالة الخلط بين الازدراء والاكتمال. فالازدراء حكم خلقى وليس حكما علميا. أما الاكتمال فهو حكم علمى عملى مثل إكمال البناء الناقص. الدخول فى هذا المجال قد يرفع الخلط بين الإعلام والعلم، بين الصحافة والجامعة. ونظرا لأن التيار الفكرى الدينى هو التيار المحافظ فقد يؤدى الدخول فى مثل هذا الخلاف إلى تقوية التيار المحافظ، وزيادة نغمة التكفير. فينحسر التنوير ويخشى من الاجتهاد. لذلك كان من الضرورى التمييز بين الازدراء والاكتمال. فالازدراء هو الرفض بسبب القبح. وهو حكم خلقى فى حين أن الاكتمال حكم علمى يستند إلى التاريخ. الازدراء حكم ذوقى فى حين أن الاكتمال حكم عقلى تاريخى. فالحكمان يتناقضان من حيث طبيعة الحكم. الازدراء حكم ذاتى نسبى. والاكتمال حكم تاريخى موضوعى. الازدراء لفظ شخصى لاعلمى، والاكتمال لفظ علمى وصفى.

وليست الأديان كلها على مستوى وظيفى واحد. كل دين يؤدى وظيفته فى مرحلته التاريخية. ويؤدى وظائف مختلفة طبقا لحاجة المجتمع ودرجته فى التطور. فالدين مثل العلم والفن والفلسفة نتاج للمجتمع ويساهم فى تطوره. ينشأ بنشأته وينتهى بنهايته. فمنذ خلق آدم تعلم الأسماء كلها، وهى أسماء الله الحسنى، صفات الذات الإلهية. ثم تطور الدين من آدم إلى نوح. فلم يهلك بالطوفان إلا ابنه الذى ظن أن الجبل المرتفع ينجيه من الطوفان. ونجت نخبة مع نوح فى السفينة. ثم تطورت الإنسانية من نوح إلى إبراهيم، من عبادة الأصنام الآلهة إلى عبادة الإله الواحد على يد إبراهيم وذريته وتجميع قومه. وأصبح الدين موضوعا للبرهان، التوحيد والبعث والإنسان والتضحية من أجله. ثم تقدم الدين إلى الشريعة الاجتماعية من أجل تنظيم المجتمع بالقانون وهى مرحلة اليهودية. فلما أصبح القانون فارغا صوريا غير ذى مضمون أتت المسيحية لتعطيه مضمونا روحيا عاطفيا وجدانيا من المحبة والإخاء. ثم أتى الإسلام ليجمع بين الشريعة والمحبة «وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ».

يمثل كل دين مرحلة. ويؤدى ما تحتاجه هذه المرحلة. ويكون دينا تاريخيا مرحليا. ويكون تفسيره بالرجوع إلى هذه المرحلة.

ثم يكون السؤال: وما وظيفة الدين فى المرحلة الأخيرة؟ وهو ما سماه الفلاسفة الدين الشامل La Religion universelle. وهو دين أخلاقى لا يختلف عليه اثنان أو مرحلتان مثل ضرورة الصدق فى القول والعمل والبعد عن النفاق. وهى الازدواجية فى القول والعمل، والدفاع عن حرية الإنسان وكرامته. وهو ما سماه المعتزلة مبدأ التوحيد والعدل. التوحيد هو وحدة الشخصية، وحدة القول والعمل، والداخل والخارج، ووحدة الأسرة كأمة صغيرة، ووحدة الأمة كأمة كبيرة تضم إليها جميع الأمم السابقة، ووحدة الأرض تعبيرا عن وحدة الأرض والسماء، ووحدة الأسرة تعبيرا عن وحدة الذكر والأنثى. وهذا هو معنى اكتمال الدين أى تحقيق غايته لإثبات حرية العقل وحرية الإرادة واعتماد الإنسان على نفسه، عقلا وإرادة. ولا يعنى ذلك ازدراء المراحل السابقة بل تحديد وظيفتها ودورها النسبى. فالرجل لا يزدرى شبابه. وشبابه لا يزدرى صباه. وصباه لا يزدرى طفولته. والتكليف لا يكون إلا فى مرحلة الرجولة. وهى مرحلة الحساب.

يتم الازدراء بسبب غياب العقل وحرية الإرادة وهى مكونات الدين الكامل الذى يعتمد على العقل والبرهان وهما من أكثر الألفاظ ذكرا فى القرآن الكريم. وما سماه المعتزلة العقل أساس النقل، وما أطلق عليه ابن تيمية، زعيم السلفيين المحدثين، موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول، وما اعتمد عليه لنقض المنطق الصورى الذى كان يعتبر علما عقليا خالصا فى «نقض المنطق» و«الرد على المنطقيين»، وحاول وضع أسس منطق جديد مثل «ما لا دليل عليه يجب نفيه» و«قياس الأولى». ووضع ابن سينا «منطق المشرقيين» والسهروردى «حكمة الإشراق» سابقا «المنطق الصورى والمنطق الترنسندنتالى» للسهروردى. والإرادة حرة مستقلة والطبيعة تخضع لقانون حتمى لا يخرقه أحد. فقد انتهى عصر المعجزات. ومن يثبت المعجزات الآن يخلط بين العصور. يجعل الماضى حاضرا، والحاضر ماضيا. وقد اعترف الرسول بذلك «سُبْحَانَ رَبِّى هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا». والتاريخ له قانون يخضع له هو سبب انهيار المجتمعات. ولم نعد فى عصر شق البحر بالعصى ولا فى عصر ضرب ولا وضع اليد لتشق الأرض وينزل الماء من السماء. فالنقاش الآن لا حول إنزال موائد من السماء لتغذية الجوعى والفقراء بل حول التنمية وكيفية تقدم البلدان المتخلفة. ولا حول ضرب الحجر فيتفجر ماء بل حول بناء السدود لتخزين مياه الأمطار لرى الصحراء والأرض القاحلة. ولا توجد أمة مختارة فى التاريخ أو شعب الله المختار بل كل أمة تخط تاريخها بنفسها. وتنشأ الحاجة إلى الدين فى مرحلة اكتماله إما لنقص فى المعرفة أو لعجز فى السلوك. ويأتى الدين لسد هذا النقص فى صورة صوفية. تقوم النبوة بسد العجز النظرى، والمعجزة بسد العجز العملى.

ويكون الاكتمال إذا ما تحقق المسار الجدلى للدين. فجوهر اليهودية القانون أو الشريعة أى الحلال والحرام. فيتحول الدين إلى شكليات تطالب بمزيد من الشكليات والتى تكون نتائجها الطاعة أم العصيان. ثم تتحول الشكليات إلى الضد أى إلى المحبة والوجدانيات. وهو ما يفسر عبارة المسيح «ما جئت لأنقض القانون بل جئت لأكمله». ثم يأتى محمد ليجمع بين الشريعة والمحبة حتى يكتمل الدين، ويجمع بين العقيدة والشريعة، بين التوحيد والعدل. فالتوحيد بلا عدل صورى فارغ. والعدل بلا توحيد نسبى متغير.