مذكرات ثائر لم يشارك في الثورة (4 -5)

وليد علاء الدين الإثنين 15-02-2016 23:29

إن الخوف مجرد فكرة، والصور التي نبنيها في خيالنا عن الأشياء أهم من الأشياء في حد ذاتها، بل ربما لا علاقة لها بها.

لا أعرف على وجه التحديد من قال ذلك، ولكنني اختبرت هذه النظرية بنفسي بعد ليلة قاسية قضيتُها أرسم في خيالي صورة مرعبة عن الشارع بعد أن اجتهدتْ وسائلُ الإعلام في تصويره- في أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير – وكأنه تحول إلى ساحات يحكمها الرعاع والبلطجية وعصابات اللصوص السائبة!

إذا كانت أبسط عمليات غسيل المخ تتم من خلال تعريض الإنسان لظروف قاسية بهدف تشويش مراكز التفكير لديه بما يسمح بتمرير اللازم من معلومات وأفكار إلى عقله بأقل قدر من مقاومة الوعي، فإن هذا الوصف ينطبق إلى حد كبير على هذين الرجلين الذين قضيا ليلة السابع والعشرين من يناير 2011 محبوسين في شقة بمنطقة الهرم، مرهَقين من رحلة قدوم كل منهما قبل أيام قليلة من «مهجره» الذي قضى فيه معظم سنين وعيه، منهَكين من التحضير الطويل لاختبار يعرف كل منهما أنه قد تجاوزه عمرًا وخبرة، إلا أنه مجبر على اجتيازه -بشروط واضعيه- ليتمكن من استكمال حلمه في المجال الذي يحبه.

تتردد في سماء ليلهما أصوات طلقات نارية لم يألفاها، وأصوات «سراين» لا يعرفان إن كانت لسيارات إسعاف أم نجدة أم غيرها، ونداءات أمان يطلقها بين الحين والآخر من ميكروفون الجامع القريب صوت يعرف نفسه بأنه ضابط بالجيش يطلب بلهجة تجمع بين الأمر والرجاء من سكان المنطقة التزام بيوتهم لتتمكن قوات الجيش من تأمينهم.

أحد هذين الرجلين هو كاتب هذه السطور، الذي لا يذكر الآن – بعد مرور خمس سنوات- كيف نجح في الوصول إلى تلك الشقة في الشارع الجانبي المتفرع من شارع «خاتم المرسلين»، بعد أن تعطل به المترو في محطة تلي جامعة القاهرة بقليل. والرجل الآخر هو صديقه الذي يستضيفه في شقته لإنهاء اختبارات الماجستير الخاصة بهما والعودة إلى مهجرهما.

مع هذا العقل المشوش والشعور بعدم الاستقرار الذي يعرفه من عاش طويلًا خارج وطنه، وسطوة فكرة الامتحانات، والقلق على أسرنا وأشغالنا التي تركناها في الخارج، كنا هدفين ملائمين لغسيل مخ تجريه علينا وسائل الإعلام التي أصابتها حالة من السعار وراحت تتنافس في تلوين الأحداث بما يناسب توجهاتها من ألوان؛ فما تقوله قناة «الجزيرة» لا يشبه في شئ ما تبثه قنوات «النيل» التي سلطت كاميراتها على مشهد هادئ للنيل! وكتاهما لا تشبهان ما تنقله قناة «العالم» الإيرانية أو قناة «العربية» السعودية، أو قناة «الحرة» الأمريكية أو حتى قناة «الحوار» التي لا أعرف مصدر تمويلها، والتي كانت في سباق لاهث لنقل الأحداث حتى أن مُعدِّيها نجحوا في الحصول على تليفون صديقنا سامح وأجرت القناة معها مداخلة على الهواء، طلبتْ منه أن يتحدث فيها عن الأحداث رغم إصراره على أن يوضح لهم أنه للآن لم يتحرك من منزله!

غسيل الدماغ المرهق هذا جعلنا نتصور أن الشارع -أسفل العمارة- التي نقطنها قد تحول بالفعل إلى غابة، وأن وحوشًا كاسرة – لا نعرف أين كانت تختبئ- تجوس بين البيوت الآن تتشمم روائح الدماء في عروق الناس لتقتنصهم في مكامنهم. فما بالك ببؤرة الأحداث ومركزها، ميدان الميادين وملجأ الثوار وقبلتهم، ميدان التحرير! لابد وأن الدنيا هناك غير الدنيا.

كنت قد بدأت أستعيد وعيي بعد عودتي من اختبار مادة الإحصاء في بحوث الإعلام، وقد أفرغتُ فيه شحنة التوتر التي تلازمني خلال فترات المذاكرة والامتحانات التي تُلزمني بما لا أجيد من «حفظ» للمعلومات استعدادًا لاستظهارها على الورق في نظام لا يعرف كيف يقيس عقول طلاب العلم إلا بقدر ما يدونون مما حفظوا من مذكراتهم وكتبهم.

كانت أحاديث الطلاب في الكلية قد أنارت المزيد من جوانب المشهد في عقلي، ومنذ وصولي الشقة لم أفعل شيئًا سوى تقليب القنوات التليفزيونية وتصفح الفيس بوك لمعرفة تطورات الأحداث، وعلى ضوئها أتبادل الأحاديث والمناقشات مع سامح الذي كان شديد الحماسة والانفعال بما يحدث؛ كان –بخلافي وقتها- مُلمًّا بخيوط الأحداث منذ الإرهاصات الأولى ما قبل اندلاع الثورة، وقادرًا على الربط بينها بمهارة، كانت له رؤية محدّدة ووجهة نظر لا يشوبها – في رأيي – سوى حماسته الشديدة التي تجعله -أحيانًا- يخلط بين الأفكار والمبادئ وبين الأشخاص الذين يمثلونها في لحظة من الزمن، وهو خلط في الواقع لا يملكه إلا المخلصون والصادقون الأوفياء، ولكنه -في رأيي- يقود صاحبه -دون وعي منه- إلى اتخاذ موقف متطرف قد يحيد به عن المبدأ والفكرة اللذين يدافع عنهما.

وسط قلقنا العام، كان قلق سامح كبيرًا على أخيه الأكبر المرابط في الميدان منذ يومين لم يغادره، لم يتوقف عن التواصل معه عبر الهاتف للاطمئنان عليه وحثّه على العودة لينال قدرًا من الراحة ويُطمئن أسرته الصغيرة ويعود. كان الأخ عنيدًا لا يقبل النقاش، وهو العناد الذي لم أفهمه إلا عندما تخلصت من فكرة الخوف بعد وصولنا إليه في الميدان.

كنا في السابع والعشرين من يناير – الخميس- وهو اليوم الذي سبق المجزرة الليلية التي شهدها ميدان التحرير، وكانت سببًا في تأجيج مشاعر الغضب في قلوب الناس وحملتهم على الخروج في اليوم التالي للتعبير عن مشاعرهم تلك فصار «جمعة الغضب».

أخبرني سامح عن أخيه، هو ضابط جيش متقاعد، لا يكبرنا كثيرًا في العمر، لم يتقاعد بسبب السن، ولكن لظروف مرضه وتعرضه لجراحات بالقلب. قال لي سامح وهو يغالب دموعه: قلبه ضعيف يا وليد ولن يحتمل الإجهاد.

بعد مكالمته الأولى قال لي وهو يكاد ينفطر خوفًا عليه: إن صوته يشبه الفحيح من كثرة الصياح وترديد الهتافات. لم يستمع لنصائحه وأوصاه بامرأته وابنته الصغيرة، قال له: فليذهبا عند أمها ليكونا في مأمن، وحذَّره من سياسة بث الخوف في قلوب الناس في بيوتهم عبر الإعلام والإشاعات حتى يفعل كل إنسان ما يفعله الآن من إلحاح على أحبابه للعودة فيخلو الميدان.

راحت المكالمات بين الأخوين تنقطع وتتصل، كانت الطاقةَ التي نُطلُّ منها على حقيقة الوضع في الميدان والشارع، قال الأخ لأخيه: إن الشارع أكثر أمانًا من البيوت، وقال: هنا نحمي بعضنا البعض يا سامح. كان يصرخ في حماس: لقد حمينا المتحف المصري بصدورنا، أراد الكلابُ أن ينهبوه، وكنَّا لهم بالمرصاد. كان يتحمس ويحكي وعندما يزداد حصار سامح له لكي يعود إلى المنزل يُنهي المكالمة لأي سبب. وعندما أفرط سامح في الإلحاح، قرر أن لا يرد على مكالماته، وعندها قررنا أن نقاوم خوفنا وننزل لنكتشف أن الدنيا في شوارع القاهرة كانت بالفعل قد أصبحت غيرَ الدنيا التي عرفناها طويلًا.

waleedalaa@hotmail.com