لماذا فشل الهنود الحمر؟!

عبد المنعم سعيد الإثنين 15-02-2016 21:31

ليست هذه هى المرة الأولى التى أعرض فيها السؤال المطروح أعلاه؛ ولكنها ضرورية فى المقام الذى نود التعرض له. فقد ألحت المسألة على المؤرخين والباحثين، كيف يمكن لأقلية من المهاجرين البيض أن تهزم أمما كبيرة من قبائل السكان المحليين فى أمريكا الشمالية. قيل إن الهزيمة كان سببها الانقسام والحروب بين القبائل، كما ذكر الفارق فى التسليح والتكنولوجيا بين أوروبا التى كانت تخرج من العصور الوسطى و«الهنود الحمر» ـ كما سماهم الأوروبيون لظنهم أنهم وصلوا إلى الهند! ـ الذين كانوا لا يزالون يعيشون حياة بدائية. وذكر أيضا وحشية وتعصب المهاجرين الجدد، وكيف أنهم تعاملوا مع أهل البلاد باعتبارهم من الكافرين. تعددت الأسباب حتى تعدت العشرات، ولكن سببا واحدا منها ربما يلفت النظر بشدة وهو أن القادمين من أوروبا جاءوا ومعهم فكر عسكرى يقوم على قلاع القرون الوسطى لحماية السكان والدفاع عن المناطق. أهل البلاد الأمريكية كان لديهم فكر عسكرى، ربما يكون بدائيا من حيث التسليح، ولكنه كان خفيف الحركة يعرف جيدا كيف يحاصر، ويخنق القلاع، ويمنع عنها المؤن والمدد من المناطق الزراعية القريبة أو البعيدة. المعضلة بالنسبة لهم كانت أنه أثناء الحصار كان يأتى من جانبهم سرب من الوعول، فلا يستطيع «الهنود الحمر» مقاومة هذه الثروة من الأصول واللحوم فكانوا يتركون الحصار لكى يسرعوا وراء السرب، فتكون فرصة للمحاصرين لكى يتزودوا بالمؤن والغذاء ويطلبوا، وتأتيهم، النجدة من القلاع القريبة.

لقد كتبت وطالبت كثيرا بضرورة التركيز الوطنى فى تحقيق أهدافنا الإستراتيجية، وكان مثال «الهنود الحمر» دائما فى ذهنى حيث انتهى أمرهم إلى كانتونات متفرقة فى أمريكا الشمالية يعيشون فيها وفق تقاليدهم وأعرافهم، ولكنهم فقدوا السيادة على قارة بأكملها. لا أقول إننا نسير على خطاهم، وإنما أرى بعضا من ملامح فقدان التركيز جارية، وربما كان ذلك ما جرى فى البلاد منذ هزيمة يونيو ١٩٦٧ التى أشار إليها الرئيس فى مداخلته مع الأستاذ عمرو أديب باعتبارها أصل المأساة المصرية. والحقيقة أن فقدان التركيز كان سابقا على ذلك عندما انتهت الخطة الخمسية الأولى عام ١٩٦٥، ولم تكن هناك خطة أخرى. ومضى عامان بعدها زاغت فيها العيون، واستبدت بالحيرة العقول، وفقدت الأمة تركيزها فلم تكن تعرف ماذا تفعل فى حرب اليمن، وبات واضحا أن سيطرة الدولة على الاقتصاد معناه حالة ضاغطة من الحرمان. جاءت الهزيمة عندما دخل الزعيم إلى أزمة ظنها تكرارا لأزمة أخرى مضت عام ١٩٥٦، ولم يبال كثيرا أن قدرا كبيرا من جيشه على بعد آلاف الأميال. كان ذلك فى زمن باتت فيه الدولة تتحرك خلف كل أنواع أسراب الوعول بينما العدو يستعد للهجوم على أطراف الكنانة.

فقدان التركيز يمكن أن يكون حالة طبية، ولكنه أيضا يمكن أن يكون حالة من فقدان الأهداف والطريق إليها، وفى أحوال أخرى يمكن أن يكون عجزا عن استيعاب المناخ المحيط بنا وكيف تغير الإقليم ومن قبله العالم. وإذا كانت هناك ثورة مثل ثورة يوليو ١٩٥٢ طبعت البلاد بطابعها على مدى ستة عقود، فإن ثورتين ما زالتا تجاهدان فى البحث عن طابع يأخذ بيد البلاد إلى مستقبل أفضل. جماعة منا ظنت أن هذا الطابع يمكن أن يكون فى «الثورة المستمرة»، وبشكل ما تصير «الثورة» حالة ومهنة يقودها ثوريون يبحثون عن سياسات راديكالية. وجماعة أخرى أخذت بالطابع الدينى بحيث تتغير الدولة المدنية فى مصر لكى تكون فى أحسن الأحوال قريبة من إيران. وجماعة ثالثة تمسكت بتلابيب الديمقراطية والليبرالية وأنواع مختلفة من الحرية، ولكنها عجزت تماما عن معرفة أن كل ذلك يحتاج إلى «دولة»، وإلا لصارت كل الطرق مؤدية إلى الفوضى. الجماعة الرابعة هى التى استندت إلى شرعية الثورة الثانية فى يونيو ٢٠١٣ بعد أن أخذت من الثورة الأولى فى يناير ٢٠١١ شرعية الإطاحة بنظام يوليو، ولكنها، ربما حتى الآن، لم تعلم ما الذى سوف يحل محله. خريطة الطريق كانت مبشرة بنظام ديمقراطى تنموى، ولكن الأشكال والمؤسسات تظل هكذا حتى يكون لها محتوى ومضمون يتجاوز الطريق الذى سلكته ثورة يوليو، ويتصالح مع ثورات التقدم فى العالم كله ساعة غياب مصر الطويل.

فى لحظة من اللحظات شعرت أنه ربما نكون قد اقتربنا من الطريق الصحيح الذى نستعيد فيه التركيز والتخلص من هذه «الدوخة» بين جماعات شتى. وكان ذلك عندما جاءتنى دعوة لحضور مؤتمر عن «رؤية مصر ٢٠٣٠» قيل إن السيد رئيس الوزراء سوف يفتتحها. كان ذلك مبشرا بأن الدولة فى النهاية سوف يكون لديها «وثيقة» ربما تماثل أو تتفوق على الميثاق الوطنى فى عهد عبدالناصر، وورقة أكتوبر فى عهد الرئيس السادات. هذه الوثيقة كان متوقعا أن تلقى بعضا من الملاحظات، إلا أنها كانت ستظل هى المصدر الذى تتحرك من خلاله الدولة المصرية خلال الخمسة عشر عاما القادمة. هى وثيقة عابرة لفترة الرئاسة الحالية للمشير عبدالفتاح السيسى، ولكنها سوف تكون أول الوثائق التى يعمل على تطبيقها الرئيس الحالى والرؤساء القادمون. ببساطة كان ممكنا أن تكون خريطة طريق أخرى، أكثر تفصيلا، وأشد وضوحا؛ ولكن للأسف جرى إلغاء المؤتمر، ولا أعرف ما الذى جرى للوثيقة، وربما سوف تظهر فى وقت آخر.

المعضلة الكبرى هى أن الزمن لم يعد صديقا لأحد إلا بالقدر الذى يجرى فيه استغلاله؛ أما إذا مرت الأوقات فإن النتيجة تكون الفراغ الذى هو نوعان: فكرى وعملى. الفكرى هو أن غيبة الرؤية تسمح لآخرين بملئه عن طريق رؤى وأفكار أخرى ربما تأخذ بالبلاد فى اتجاهات مدمرة لأن العنف والإرهاب جزء أساسى من مكوناتها. والعملى هو أن لكل رؤية طريقها التنظيمى والتعبوى الذى تسعى به لتحقيق أهدافها، وبقدر ما تشغل به وعاء العقل فإنها تشغل وعاء الواقع. وبصراحة فإن الانتظار لا يسمح فقط لآخرين باستثمار الفراغ، وإنما أيضا يخلق الدوافع والمحفزات التى تستغل الطاقة الموجودة لدى الناس فى اتجاهات متباعدة، فيصبح بعدها تفكيك البلاد ممكنا. لم يتحمل «الهنود الحمر» زمن الانتظار، وكانت الوعول واعدة، ولكن انتهاء الحصار خلق حالة مصيرية.

بالنسبة لنا فإن «الحالات المصيرية» تكررت خلال السنوات الخمس الماضية، وبالتأكيد فإن الدولة أثبتت قدرتها على الصمود فى مواجهة تحديات جسام؛ ولكن المؤكد أيضا أن القدرة على الصمود ليست كافية، فهناك تحديات أخرى كانت ولا تزال ملحة منذ عام ١٩٧٣ وحتى الآن. وبعد تحرير الأرض عام ١٩٨٢ فإنه لم يعد لدينا أعذار تاريخية للتخلف بينما الدنيا كلها أخذت فى الانطلاق إلى آفاق لم تعرفها البشرية من قبل. ما حدث كان إخفاقا تاريخيا آخر لأن قيادتنا ظنت أن لدينا الزمن كله لكى نفعل ما فعلته أمم أخرى باتت قادرة على مضاعفة الدخل القومى خلال زمن لا يزيد على ثلاث سنوات كما فعلت فيتنام. المدهش أن التقاعس، والعجز عن اللحاق بالدول الأخرى، لم يكن سببا للثورة الأولى؛ وحتى ما تميزت به الثورة من بحث عن «الكرامة الإنسانية» لم يتضمن التخلص من القروض والمعونات والمنح واللجوء إلى العالم لكى يعطينا التكنولوجيا والعلاج بينما نلعنه كل صباح.

الآن ربما نكون إزاء آخر الفرص، وهناك جهد مبذول، ومؤسسات مكتملة، ولكن الكل مع ذلك مشغول بقضايا حقيقية وزائفة، ولكنها كافية لكى تصرف الأنظار، وتوهن من التركيز، وببساطة تترك الحصار الحقيقى للمشكلات العظمى فنكسب معركة صغيرة، ولكننا نخسر الحرب الكبرى.