الدقائق الأخيرة فى حياة فاروق فى المطعم الإيطالى
يحكى إبراهيم بغدادى عن ليلة وفاة فاروق 27 مارس 1965، فيقول: فى تلك الليلة كان فاروق يرتدى بدلة رمادية اللون، وتجلس إلى جانبه صديقته «إيرما كابوتشى» الشديدة الشبه بالمصريات. وكان عشاء فاروق الذى قدم إليه فى تلك الليلة: أسماك بحرية ومحار ومايونيز وقطعة من الضأن المشوى وأطباق من فواتح الشهية. وكان يتناول طعامه بشهية شديدة. وفجأة حدث ما لم يتوقعه أحد. مال فاروق إلى الوراء قليلاً ثم كثر الميل حتى أنه أسند رأسه على الحائط. وفى البداية لم يشعر أحد بما حدث، ولكن فاروق لفت النظر بصوت شخيره الذى بدأ يعلو. وحدث هرج ومرج فى الجلسة. وارتبك كل من فى المطعم، وأخذ بعضهم يجرى، وآخرون يحاولون إيقاظ فاروق من نومه المفاجئ. وقال أحدهم اتركوه ربما ينام قليلا، ربما «كبس» عليه النوم. وصاحت إيرما كابوتشى: ماذا حدث لصاحب الجلالة إننى قلقة عليه. ووجه صلاح الحمصانى (أحد الموجودين مع فاروق) نقداً لها قائلاً: طبعا لقد بذل جهداً شديداً أثناء معركتك الكلامية معه. قالت إيرما: هذا شىء طبيعى يحدث بين أى صديق وصديقته فلماذا تلومنى؟ قال صلاح الحمصانى بالفرنسية: لقد كان الخلاف حاداً وكنت أخشى على صاحب الجلالة من مضاعفاته.
قطع النقاش استغاثة المترودوتيل قائلا: نريد طبيبا.. نريد طبيبا.. ثم وقف وسط المطعم وقال: إذا كان بين السادة الزبائن طبيب فليتقدم فورا فنحن بحاجة إليه. ولم يتقدم أحد. وكل الذى فعله صاحب المحل أنه أبعد الزحام الذى بدأ حول مائدة فاروق للتفرج عليه بعد أن لاحظ احتقان وجهه.
ورأيتهم يفكون ربطة عنقه، التى كانت مطبقة على رقبته السميكة، ويخلعون حذاءه ويفكون حزامه. وكان كل ذلك يتم بصعوبة شديدة بسبب عدم مساعدة حجمه على الحركة. وتم الاتصال بتليفون الإسعاف الذى جاء بسرعة وحمل فاروق، وأمدوا له داخل السيارة التى أقلته أنابيب الأكسجين كى يتنفس من خلالها.
كانت سيارة الإسعاف تشق الشوارع بسرعة بالغة إلى مستشفى «سانت كاميلو» حاملة فاروق يرتدى البدلة الرمادى ومفكك الحزام والحذاء وربطة العنق، حتى أنى أتذكر أنهم نسوا حذاءه فى المحل وكان من ماركة «بالى».
-----------------
ساد المطعم صمت شديد إلى أن تنبه صاحب المطعم فبدأ يتحرك بعصبية قائلا لنا: تحركوا.. لا تقفوا هكذا.. كل واحد يهتم بعمله، الله معه. ثم همس فى أذنى: أرمندو.. حاول تنظيف مائدة الملك حتى إذا عاد زملاؤه وأصدقاؤه بعد الاطمئنان عليه وجدوها نظيفة.
وبدأت أجمع بقايا الأطباق ولاحظت أن معظم أطباق الملك كانت فارغة، مما يدل على أنه أكل كميات رهيبة! وفى خلال ذلك بدأ زبائن المطعم يعلقون على ما حدث، ويربطون بين بدانة فاروق والكميات التى أكلها وما حدث له. وقال لى جرسون زميل: تصور يا أرمندو أننى كنت أتنبأ بما حدث. فعندما كنت أضع أمامه طبق الأسماك البحرية كنت أسمع صوت صدره وهو يعلو ويهبط. كانت أنفاسه متلاحقة كشخص عجوز يجرى منذ ساعة كاملة ثم ارتمى فوق أقرب مقعد.
فجأة دخل المطعم أحد الأشخاص المجهولين وقال إن الإذاعة الإيطالية أذاعت منذ قليل أن فاروق مات متأثراً بنوبة قلبية. وعلمنا بعد ذلك أنه مات فى الطريق إلى المستشفى داخل سيارة الإسعاف، ولم تنجح محاولات إنقاذه. كما علمنا أن جثة فاروق دخلت مشرحة مستشفى «سانت كاميلو» مثل أى شخص عادى. وظل البوليس الإيطالى يتابع التحقيق إلا أن السلطات الإيطالية أغلقت الملف على أساس أنها أزمة قلبية حادة أودت بحياة فاروق.
ذاع الخبر، وران على المطعم الصمت، ولكن بعد قليل- كالعادة- عاد كل شىء كما كان. عادت الموسيقى للشدو والضحكات تجلجل ومضت الحياة كما يقولون. أما أنا فلم يعد مهماً البقاء فى المطعم، خصوصاً أن المصريين الذين كانوا يحضرون ليتواجدوا على مائدة فاروق انفضوا تماماً. فلماذا يأتون إلى هذا المكان وقد مات الرمز؟ لم أر أحداً منهم طيلة أسبوع كامل ظللت أعمل فيه، وتحملت عناء السهر حتى لا يكون اختفائى المفاجئ مدعاة للريبة. وعشت الأسبوع الذى تلا موت فاروق مع محررى الصحف والمجلات الإيطالية والعالمية التى كانت تنشر تحقيقات مصورة بعنوان «هنا مات فاروق»، ثم تروى القصص المطولة عنه وعن صديقته إيرما كابوتشى التى اختفت تماماً ولم تعد تظهر فى المجتمعات بعد موت فاروق!
الأسبوع القادم جنازة فاروق ووصيته..