جاء الفيلم الإيطالى التسجيلى «نار فى البحر» إخراج جيان فرانكو روزى أولى روائع مسابقة برلين للأفلام الطويلة 2016 الجديرة بالفوز بالدب الذهبى، ويصعب عدم فوزه بأى من جوائز المهرجان عند إعلانها السبت القادم.
هذا هو الفيلم التسجيلى السادس لمخرجه الذى ولد عام 1964 ودرس السينما فى نيويورك، وفاز بالأسد الذهبى فى مهرجان فينسيا عام 2013 عن فيلمه «الطريق الدائرى»، وكان أول فيلم تسجيلى يفوز بأكبر جوائز أعرق مهرجانات السينما الدولية. ويثبت «نار فى البحر» مكانة روزى كأحد كبار المخرجين التسجيليين فى العالم اليوم.
يعبر «نار فى البحر» عن المأساة الأكبر فى عصرنا، وهى مأساة اللاجئين الذين يعبرون البحر المتوسط من أفريقيا والعالم العربى على نحو غير شرعى إلى أوروبا، فراراً من النظم الديكتاتورية والحروب الأهلية والعنف الذى تمارسه جماعات الإسلام السياسى المسلحة.
ولا تأتى أهمية الفيلم من تعبيره عن هذا الموضوع الذى يشغل العالم كله، وإنما لأسلوبه فى التعبير عنه كما فى كل عمل فنى كبير. فالفيلم ليس مجرد «تسجيلى» لبعض رحلات قوارب الهلاك التى يموت عشرات الألوف من ركابها قبل وصولهم إلى الشواطئ، ومحاولات الجيوش إنقاذ من يمكن إنقاذهم منهم، والمعسكرات التى يقيمون فيها، وإنما يعبر عن هذه القضية باعتبارها مأساة إنسانية، وبأسلوب السينما الخالصة الذى يتجاوز التسجيلى والروائى إلى دراما ما بعد الحداثة بامتياز.
لا تعليق على شريط الصوت، ولا حوار مع أحد أمام الكاميرا أو ورائها، ولا موسيقى، ولا تحليل سياسى عن أسباب ذلك الهروب الكبير، أو «هولوكوست» العصر، وإنما تعبير عن عالمين: عالم جزيرة لامبيدوزا الإيطالية فى صقلية حيث يعيش ستة آلاف فرد يعمل أغلبهم فى صيد السمك حياة بسيطة أقرب إلى الفقر، ولكنهم قانعون ويحمدون الله على حياتهم، وعالم اللاجئين الذين يستهدفون شواطئ الجزيرة للوصول إلى أوروبا. والتسلية الرئيسية لسكان الجزيرة الراديو المحلى الذى يديره بيبو، ويتصلون به تليفونياً لإذاعة الأغانى التى يحبونها. ومن خلال الراديو أيضاً يتابعون ما يحدث على الشواطئ. وعنوان الفيلم «نار فى البحر» عنوان أغنية إيطالية من الأغانى التى انتشرت أثناء الحرب العالمية الثانية (1939-1945) والتى يطلبها من عاشوا هذه الحرب من عجائز الجزيرة. ولا غرابة فى اختيارها كعنوان للفيلم، فما يحدث يعنى أن العالم فى حالة حرب جديدة.
شهادات ومواقف
كتب روزى سيناريو الفيلم مع كارلا كاتانى، كما قام بالتصوير وتسجيل الصوت، فهو فيلم مؤلف بكل معنى الكلمة، وقام بالمونتاج أستاذ بارع هو جاكوب قوادرى.
يبدأ الفيلم وينتهى بالصبى صامويل (12 سنة) ابن صياد السمك الذى يعيش مع والده وجدته. ويتحرك البناء الدرامى بين عالم صامويل وأسرته الصغيرة، وقدوم قوارب الموت وجهود البحرية الإيطالية وحرس الشواطئ للإنقاذ، ومعسكرات اللاجئين، وغواص من أهل الجزيرة يبحث عن اللؤلؤ فى قاع البحر، وماريا العجوز التى تعيش مع زوجها، وتطلب أغنية «نار فى البحر».
ويعتمد الفيلم على شهادات ومواقف منتقاة بعناية بالغة فى التعبير عن اللقاء بين العالمين. ومنها شهادة اللاجئ النيجيرى الشاب التى تلخص المأساة كاملة عندما يقول إنه فر من بوكو حرام فى بلاده إلى ليبيا عبر الصحراء، فوجد داعش فى ليبيا. وكيف أن شدة العطش والجوع جعلت البعض يشرب البول ويأكل البراز. وشهادة آخر يقول إن القارب ثلاث درجات أعلاه 1500 دولار وفى الوسط 1000 دولار وأسفله 800 دولار، ويعانى أغلب ركاب الدرجة الثالثة من الاختناق حتى الموت.
ومن المواقف المعبرة الطبيب الإيطالى الذى يعالج أفريقية حاملا، والمرأة الأفريقية التى تموت من الإنهاك والمرض وهى تتحدث. والعجوز ماريا وهى تعد القهوة لزوجها، ثم وهى ترتب الفراش فى الصباح، وتقبل تمثال المسيح وتمثال مريم العذراء قبل أن تغادر الغرفة. واللاجئون وهم يخرجون من القوارب ويرتدون عباءات فضية لامعة تقدمها لهم فرق الإنقاذ، فيبدون وكأنهم جاءوا من كوكب آخر كما فى أفلام الفضاء. ثم هناك السورية المحجبة التى ترفض خلع الحجاب عند تصويرها قبل دخول المعسكر، فيوافق المصور على أن يصورها بالحجاب كما تريد.
والفيلم بأكمله شهادة مبدعه على عصره، وتعبير عن موقفه الإنسانى العميق من قضية هذا العصر.