أتابع بانتظام مقالات غسان شربل بجريدة الحياة اللندنية، أجد فيها ما يستحق أن يقرأ يعجبنى أسلوبه وطريقة عرضه لأفكاره، يوم الخميس الماضى (11 فبراير) كتب مقالا بعنوان «لا تجرحوا الديكتاتور» استوقفنى كثيرا، اقتطفت منه ما جاء ذكره على لسان رجل أعمال أوغندى التقاه شربل في فندق ببرلين بعدما تعارفا، قال له رجل الأعمال: «نحن لدينا رئيس. ونعرف أنه ديكتاتور. وأنه يخطط لتوريث ابنه. وأنه وضعه على رأس الحرس الجمهوري والقوات الخاصة. ونعرف أنه محاط بمستشارين متملقين. وأن حاشيته تعجّ بالفاسدين. وأن عائلته تعوم على الدولارات. وأن ضباطه نهبوا المناجم في دولة مجاورة حين أرسلوا بذريعة إنقاذها. وعلى رغم كل ذلك نأمل بألا نغامر ببلدنا كما غامرتم أنتم ببلدانكم»، ويضيف «منذ 1986 لدينا زعيم واحد اسمه يووري موسيفيني تحوّل مع الوقت رئيساً منتخباً وديكتاتوراً كاملاً. أخذ من البلد أشياء كثيرة لكنه أعطانا الاستقرار. أظنّك تعرف ما عشناه في أيام عيدي أمين ومن بعده ميلتون أوبوتي. الديكتاتور وظيفة تدوم إلى الأبد. لن يغادر القصر إلاّ إلى القبر. وغالباً ما يعتقد بأن لا أحد يستحقّ أن يؤتمن على البلاد بعده إلاّ نجله. الديكتاتور ليس موظفاً لتقول له إن ولايته انتهت وإن عليه أن يذهب للعيش في النسيان مع التجاعيد المتسارعة والسعال المتكرّر والمرارات. الديكتاتور لا يذهب وحده. إذا أرغمته على المغادرة يأخذ البلد معه إلى الجحيم».
أستوقفتنى هذه الكلمات كما استوقفت كاتب المقال، فما يقوله نعرفه في وطننا العربى جيدا، وسوريا خير مثال على ذلك، الثرى الأوغندى يرى أن الاستقرار أفضل من محاربة الديكتاتورية التي قد تؤدى إلى الفوضى والدمار كما حدث في عدد من دول الربيع العربى، هذه الشخصية البرجماتية الملتصقة بالواقع لا تفكر بالحلم ولا بالأمنيات وتردد ماسبق أن قاله كل الحكام المستبدين ورجالاتهم: «نتوهّم أحياناً أن بلداننا جاهزة للديمقراطية ولا ندرك الفارق بينها وبين السويد أو بريطانيا أو النمسا. نتجاهل ذلك التراكم من التطورات السياسية والاقتصادية والتعليمية والثقافية التي أتاحت لأوروبا أن تعيش في ظل الديمقراطية وتداول السلطة واحترام حقوق الإنسان. هذه بلدان تقطف ثمار ما عاشته يوم كنا نغطّ في نوم عميق».
ويضيف: «أعرف أننا نعيش في عالم صنعه الآخرون. نحن لم نصنع طائرة أو ثلاجة أو حبة دواء. وليست لدينا مدرسة عصرية أو جامعة محترمة. لا قداسة لدينا للدستور. ولا نحبّ العيش في ظلّ حكم القانون. نحن أبناء قبيلتنا ومنطقتنا وطائفتنا ولا علاقة فعلية تربطنا بمفهوم المواطنة. لسنا جاهزين للانتخابات الحرة. المواطن لدينا يبيع صوته يوم الاقتراع بكيس طحين أو مسدس أو حفنة من الدولارات. ما نحتاجه ليس الانتخابات».
وتابع الحكيم الأوغندى حديثه للكاتب ناصحا: «إذا خلعت الديكتاتور قبل نضوج المجتمع يأتيك ديكتاتور آخر وحاشية جديدة شرهة تريد التهام ما تبقّى من البلاد. لهذا أقول للمتحمسين من أبنائنا: لا تزعجوا الديكتاتور ولا تجرحوه. ما فائدة الفرار من ظالم إذا كان الظلام خليفته الوحيد؟ مجتمعاتنا ليست ناضجة بعد لا للثورات ولا للديمقراطية».
غسان شربل ينهى مقاله بهذه الجملة: «تجرّعت الحكمة الأفريقية مع فنجان القهوة. وقلت لن أشربَ السمّ وحدي ومن يدري فقد يستسيغه القارئ»، بعد قراءتى للمقال فكرت طويلا فيما جاء فيه، ماقاله الأوعندى ليس بجديد، فبالفعل الحكام المستبدون لا يخرجون بسهولة من المشهد، يخرجون كما يخرج الظفر من اللحم، بألم شديد ودم يراق، ودائما يدافعون عن تمسكهم بالحكم بأن بديلهم الفوضى والخراب.
البلدان العربية كمعظم بلدان أفريقيا، تجربتها مع الديمقراطية سطحية لم تتغلغل لأعماق المجتمعات، لكن هل معنى ذلك أن تتنازل هذه الشعوب عن أحلامها في حياة حرة كريمة في أوطانها بدعوى أن خلع الديكتاتور يجلب الخراب على البلاد والعباد؟ هل الانصياع للديكتاتور حتى يزبل حكمه ويقع من تلقاء نفسه كثمرة عطبة ولو بعد عشرات السنين هو الخيار المنطقى الأفضل؟. لا اعتقد أن الإبقاء على ديكتاتور هو الحل، لأن الثورة عليه تعنى الخراب والمعاناة، فهذه الفرضية خاطئة، فالخراب الحقيقى يصاحب الديكتاتور طوال سنوات حكمه، لكن يكون غير مكشوف ومغطى بالأكاذيب التي يروجها رجاله المنتشرون كالفيروس، هؤلاء يروجون شعار الأمن والاستقرار الذي يتمتع به الشعب في عهد الديكتاتور الإله المعصوم من الخطأ، ثورات الربيع العربى لم تفعل سوى أنها اظهرت عورات نظام الديكتاتور... وأى ديكتاتور يجب أن يعى درس التاريخ، الشعوب باقية أم هو إلى زوال، فما هو إلا فقاعة وأكذوبة تنكشف مع أول شعاع لشمس الحقيقة.
EKTEBLY@HITMAIL.COM