لماذا انهارت حضارة مصر القديمة؟

جمال أبو الحسن الأحد 14-02-2016 21:13

هذا السؤال ظل يُطاردنى ويُلح على ذهنى من زمن الطفولة: كيف انهارت هذه الحضارة العظيمة التى ملأت الدُنيا زمناً يربو على الثلاثة آلاف عام؟ كيف صارت أثراً بعد عين؟ كيف درست آثارها واندثرت لغتها وثقافتها حتى استحالت لُغزاً حير الألباب إلى أن فك طلاسمه «شامبليون» فى القرن التاسع عشر؟ هذه أسئلةٌ لم أجد لها إجابات شافية فى مناهج الدراسة. والحقُ أنها- على بساطتها- مازالت تُحيرنى. لستُ متخصصاً فى المصريات، ولا حتى من هواتها المُتبحرين فى أسرارها. ما أطرحه فى السطور القادمة هو ضربٌ من التأمل فى موضوع هو بطبيعته مُعقد ومُتشابك. غرضى ليس فك رموز الماضى، وإنما إلقاء ضوء ما على الحاضر.

قيام وسقوط الأمم والممالك من السُنن الكونية. أغلب الممالك التى عاصرت مصر القديمة، كحضارات بين النهرين السومرية والبابلية والآشورية، لم يبق منها شىء كذلك. على أن ثمة صفةَ تُميز الحضارة المصرية عن غيرها: الاستمرارية المُذهلة فى الزمان. لا يدانيها فى ذلك سوى الحضارة الصينية المستمرة منذ 3500 عام (والمقارنة مع الصين تستحق التأمل لأن حضارتها لم تندثر إلى اليوم!). المسافة بين بداية الدولة المصرية مع «مينا نارمر» 3200 ق. م، وبين نهايتها الرسمية بانتحار كليوباترا فى 30 ق. م، تفوق مرة ونصف المسافة التى تفصلنا عن السيد المسيح!

هذا الاستمرار ارتكز قطعاً على أيديولوجية مُحافظة. هو عكس نظرة للحياة تُقدس الاستقرار وتعتبره غاية تُطلب لذاتها. من أين جاءت تلك النظرة المُحافظة؟ رُبما من التكوين الأول للدولة.

الدولة المصرية لم تولد من رحم مدن توسعت تدريجياً، كما الحال فى حضارات بين النهرين مثلاً. الدولة الأولى قفزت مُباشرة- على خطوتين- من القُرى والبلدات إلى المملكة المركزية. لا وجود لحياة المدينة فى مصر القديمة بالمعنى الذى عرفته بابل أو اليونان بعد ذلك. بخلاف منف وطيبة، لا وجود سوى لمراكز حضرية محدودة للغاية. مصر ليست حضارة مُدن. الأغلبية الكاسحة من سُكانها عاشوا- عبر تاريخها الطويل- فى القرى.

المُدن على الدوام هى منبع الأفكار الجديدة لأنها تجلب خبرات مختلفة وتجارب إنسانية متعددة. هى مراكز تلاقح وتعلم مُشترك وإبداع. الريف، على النقيض، يكتسب الأفكار الجديدة ببطء. يهضمها فى وقت طويل. يُعادى التغيير وينزع إلى الاستقرار. لذلك نجد أن حضارة مصر تغيرت بشكل طفيف للغاية عبر ثلاثة آلاف عام. بصورة أو بأخرى، عاش الناس طوال هذه الفترة بنفس الطريقة. هناك بالطبع لمحاتٌ تُشير إلى تطور الفنون والثقافة من عصر إلى عصر، ولكنها لا تعكس امتداد هذا الزمن المتطاول.

تكوين الدولة ارتبط أيضاً بالسلطة المُطلقة للحاكم. الحُكام فى أغلب الحضارات القديمة اكتسبوا «صفات إلهية». إلا أنه يندر أن تجد حضارة تحفل بمثل هذا التركيز على ارتباط الحاكم بالسماء. فى مصر كان الفرعون، من البداية، إلهاً مُنفصلاً عن البشر. وسيطاً بين السماء والأرض. وإلى عهد الدولة الوسطى، لم تكُن هناك حياة أخرى أبدية سوى للفرعون، دون بقية الناس. لا شك أن ظاهرة الفيضان، والحاجة إلى تنظيم الرى مركزياً، أعطت الفرعون هذه الصفة «الإلهية» التى ظلت مُلازمة له حتى نهاية عهد الأسرات.

الفراعنة، خاصة الأوائل منهم، ارتبطوا فى الأذهان كذلك بالصروح العملاقة، كالأهرام وغيرها. بناء الأهرام معجزةٌ شغلت الناس عبر العصور. المغزى من وراء البناء يظل السؤال الأهم. أغلب الحضارات القديمة أقدمت على مشروعات حجرية من هذا النوع لغاية واحدة: إبراز السُلطة المُطلقة للحاكم. تخيل أنك تعيش فى مصر القديمة، وأن قدميك ساقتاك إلى الجيزة. تصور نفسك وأنت تتطلع لهرم خوفو- من أسفل وعن قُرب- للمرة الأولى. أى انطباع سيتركه ذلك المشهد فى نفسك سوى الرهبة الشديدة؟ لابد أن من استطاع حشد الناس لبناء شىء مثل هذا هو بالفعل إله، هكذا ستقول فى نفسك. سُلطة الملوك الإلهية ارتكزت على هذا النوع من البناء الأسطورى.

برغم ما يحيط بالأهرام من غموض، إلا أن بناءها يظل معجزة إدارية/ سياسية فى المقام الأول. الثابتُ أن المصريين القدماء كانوا بنائين عظاماً، إلا أنهم لم يخلفوا وراءهم نظريات مُهمة فى الرياضيات أو الهندسة. مثلاً: هم عرفوا الزاوية القائمة- بالممارسة- واستخدموها، ولكنهم لم يطوروا لها نظرية رياضية كنظرية فيثاغورث. الأهرام تعكس عبقرية فى التنظيم، لا التنظير. الفكر النظرى عملة شحيحة للغاية فى الحضارة المصرية القديمة. هى أنتجت عدداً محدوداً من الأفكار التى صار لها تأثير ممتد (رُبما أهم الأفكار فى مجال الطبى، فضلاً عن اختراع البردى الذى ظل يُستخدم فى الكتابة حتى العصور المسيحية).

يقودنا ذلك إلى حقيقة أخرى أهم: انشغال الحضارة المصرية بالموت، وبالحياة الأخرى. الدين فى مصر القديمة ليس عقيدة أو فلسفة، وإنما نظام شامل يتغلغل فى نسيج الحياة. لو سُئل المصرى القديم- مثلاً- عن دينه، لاستغرب السؤال لأن الدين لم يكن جانباً من الحياة، بل هو الحياة ذاتها بالنسبة له. الفنُ المصرى ليس سوى محاولة لاسترضاء الآلهة. العمارة عملٌ إيمانى. السُلطة المركزية ترتكز على الكهنة. الأثر الأدبى الأهم للحضارة المصرية هو «كتاب الموتى»!

نحن إذاً أمام منظومة مُتكاملة للحياة. منظومة خاصة للغاية. ترتبط أساساً بالجغرافيا. غير قابلة للاستنساخ أو التكرار (بدليل أن طرق الحياة المصرية لم تمتد خارجها إلا فيما ندر). جوهر المنظومة هو هذه الأيديولوجية الزراعية المُحافظة فى السياسة والدين والفن، والحياة بوجه عام. حُراسها هم نخبةٌ منتقاة من الكهنة والكتبة.

هذه المنظومة ربما كانت تحمل بذور فنائها من اليوم الأول. مُشكلتها الرئيسية هى نفس موطن قوتها: ثباتها المذهل- بنفس مكوناتها- فى الزمن، وهو متغير بالضرورة. إصرارها العنيد على العيش بنفس الطريقة وذات الإيقاع لآلاف السنين.

العجز عن التكيف مع المتغيرات هو العدو الأول للدول والحضارات.

gamalx@yahoo.com