لا يكاد يلتقى مصريان فى هذه الأيام، إلا ويجمعهما حديث مرير يبدأ بانتقاد الأوضاع، وينتهى بالسخرية، والتعبير عن الإحباط.
إن شيوع هذا النمط من التفاعل يمكن أن ينذر بعواقب وخيمة، لكن جانباً إيجابياً فيه يمنحنا الأمل فى تجاوز الأوضاع المحبطة.
يختص هذا الجانب الإيجابى بهيمنة نزعة «النقد الذاتى» على الخطاب العام للمصريين، أى أننا ننتقد أنفسنا بأنفسنا، ونجتهد فى تعيين الخلل الذى أصابنا، وتسليط الضوء عليه.
فإذا جرى الحديث عن مباراة «ريال مدريد» و«برشلونة»، سيشير المصريون إلى التنظيم الجيد، والملعب المجهز الآمن، والشرطة القوية الرشيدة، والجمهور الواعى الملتزم، وسينتقدون بشدة سلوكنا المناظر، الذى وضع كرة القدم تحت رحمة الدجالين والمشعوذين، وحوّل ملاعبنا إلى ساحات مهجورة، وكمائن للعنف والموت.
وإذا حملت لنا الأخبار قرارات إعادة تشكيل حكومة الإمارات، وتعيين وزير للسعادة ووزير للتسامح، فسنسارع بالتحسر على «نهضتنا الغابرة»، و«عصرنا الآفل»، وسنكمل بالتندر على حالة وزاراتنا ووزرائنا.
فى الأسبوع الماضى، نشرت «المصرى اليوم» موضوعاً لطيفاً عن الفروق بين خدمة «التاكسى الأبيض»، وخدمة أخرى جديدة منافسة، تم استقاؤها من تجارب ناجحة فى الخارج، وتطبيقها فى مصر، لتحقق تمركزاً جيداً، وتحظى برواج وسمعة.
تشير «المصرى اليوم» فى هذا الموضوع إلى عناصر عدة تميز الخدمة الجديدة، منها نوعية السيارة، والمكيف، والنظافة، وسوية السائق، وسرعة الوصول، وعدالة السعر، ودرجة الأمان العالية، فى مقابل تردى خدمة «التاكسى الأبيض» فى تلك النواحى كلها.
من جانبها، نشرت صحيفة «الوطن»، قبل يومين، فيديو مشوقاً لأحد صحفييها، يقف فى واحد من شوارع القاهرة، طالباً من قائدى «التاكسى الأبيض» توصيله إلى «السيدة عائشة»، حيث أظهر الفيديو رفض عدد كبير منهم توصيله، ومساومة آخرين له على الأجرة، وإصرار معظمهم على عدم تشغيل العداد.
نحن جميعاً نعرف أن خدمة «التاكسى الأبيض» متردية، وأنها لم تعد قادرة على الوفاء بمتطلبات الانتقال الآمن والمحترم لقطاعات من الجمهور المصرى، لكن سائقى هذا «التاكسى» سيعارضون الخدمات الجديدة المنافسة، وستتواطأ معهم قطاعات من الدولة والجمهور، وفى الوقت نفسه فإنهم سيرفضون تحسين الخدمة التى يقدمونها.
سيذكرنا هذا بما نعلمه جميعاً عن ترهل الجهاز الإدارى للدولة، وفساد البيروقراطية العتيقة وانحدار كفاءتها، ومسؤوليتها عن الكثير من جوانب العوار والخلل فى حياتنا، لكن مع ذلك فإن مئات من أعضاء «مجلس النواب» المنتخب سينتفضون ضد قانون الخدمة المدنية الذى قدمته الحكومة، وسيساندهم ملايين من المصريين، الذين سيواصلون الشكوى من أداء الجهاز الإدارى، وسيواصلون النضال ضد أى محاولة لإعادة هيكلته أو إصلاحه.
ليس هذا بعيداً عن مشروع «كادر المعلمين»، الذى كان يمكن أن يكون الخطوة الأولى فى طريق طويل يستهدف إصلاح أوضاع التعليم فى مصر.
لا يجرؤ شخص واحد فى مصر، على مدى أربعة عقود، أن يزعم أن التعليم فى مصر بخير، أو أنه يمكن أن يحقق الأهداف الوطنية فى التنمية والتقدم، بل إن هناك حالة من الإجماع تقريباً على خطورة ترك أوضاع التعليم على ما هى عليه. لكن أى اقتراب من مصالح العاملين فى التعليم، وأى نظام لتحقيق درجة أعلى من المحاسبة والمساءلة لهم، ستُواجه بحروب شعواء.
ينطبق الأمر ذاته على أوضاع المرور التى ننتقدها بعنف، ونتلذذ بخرقها وإهانتها، والشرطة التى نريد أن تصبح كما شرطة السويد، لكن من دون أى محاسبة أو توقيع عقوبات بحق أفرادها المتجاوزين، والقضاء الذى ننتقد بعض أوضاعه السيئة، لكن لا نريد أى مقاربة لإصلاحه. لم أكن أصدق أن حالة الازدواجية التى نعانيها كمصريين يمكن أن تكون حتمية، كما لم أكن أصدق أنها تقريباً لا تستثنى أحداً، لكن ما فعله صديق يعيش فى الغرب، ويحمل درجة الدكتوراه، ويُفرط فى انتقاد أوضاعنا المهترئة، حين دافع بشدة عن حق صاحب مقهى فى أن ينصب مقهاه فى مكان سكنى بالمخالفة لقواعد التنظيم، بداعى أنه «أكل عيشه»، دفعنى لإعادة النظر فى تلك الأفكار.
لا يوجد تفسير لتلك الازدواجية العمومية التى نغرق فيها جميعاً، سوى أننا «بنحب نشتغل بعض»، ولا يوجد حل للخروج من مأزقنا الراهن سوى أن تتطابق أقوالنا مع أفعالنا.