يوم ١١ فبراير، قبل خمس سنوات بالتمام والكمال، أعلن الرئيس الأسبق حسنى مبارك تنحيه عن الحكم. عدد القتلى أو الوفيات أو الشهداء أو المفقودين منذ ذلك التاريخ، فى برّ مصر، غير موثق، إلا أن أرقاماً تتحدث عمّا يصل إلى ثمانية آلاف نفس بشرية من المدنيين وغيرهم، ضِعف هذا الرقم على الأقل من المصابين والمعاقين، العشرات من أقسام الشرطة تم إحراقها، المئات من سياراتها تم تدميرها، آلاف المصانع تم إغلاقها، عشرات الآلاف من العاملين بها تم تسريحهم، مئات الآلاف من العاملين بالسياحة تم الاستغناء عنهم، ملايين المواطنين تراجع مستوى معيشتهم، مليارات الدولارات خسرها الاحتياطى النقدى، عشرات المليارات هربت إلى خارج البلاد.
إضافة إلى كل ذلك فإن الاستثمارات توقفت، والسياحة أيضاً، الأمن اختفى، والأمان أيضاً، الخدمات تراجعت، والمرافق أيضاً، الوطن بكامله اعتمد على التقشف والتخبط فى الداخل، كما اعتاد التسوّل والمعونات من الخارج، النتيجة النهائية: أصبح المشير عبدالفتاح السيسى رئيساً، خلفاً للفريق حسنى مبارك الذى كان رئيساً.
السؤال هو: هل كان الأمر يستحق؟ أعتقد أن الأمر يستحق فى حالات محددة، هى أن نكتشف أن الحياة أصبحت أفضل، أن الحاضر أفضل، أن المستقبل أفضل، بمعنى آخر: حرية الرأى تصبح أفضل والديمقراطية كذلك، المرافق تصبح أفضل والخدمات كذلك، الاستثمارات تصبح أفضل والسياحة كذلك، الأمن يصبح أفضل والأمان كذلك، التعليم يصبح أفضل والصحة كذلك، الشرطة تصبح أفضل والقضاء كذلك، الحكومة تصبح أفضل والبرلمان كذلك، الجهاز الإدارى يصبح أفضل والإعلام كذلك، الطرق تصبح أفضل ومياه الشرب كذلك، الفساد يختفى والمحسوبية كذلك، الأسعار تتراجع والبطالة كذلك.
أما وأن شيئاً من ذلك لم يحدث فمن حق الناس أن تلعن ٢٥ يناير، و١١ فبراير، و٣٠ يونيو، و٣ يوليو، وكل تلك التواريخ التى لها صلة بكل هذه المتغيرات التى شهدها المجتمع، فحينما يصبح القتل بلا هوادة فى مجتمع كان آمناً، وحينما تكتظ السجون فى مجتمع كان هادئاً، وحينما تشتعل الفتنة فى مجتمع كان عامراً، فإن الأمر أبداً لم يكن يستحق، حينما تتراجع معدلات التنمية من ٨٪ قبل هذه الأحداث إلى ١٪ بعدها، فإن الأمر أبداً لم يكن يستحق، وحينما تذهب آلاف الأرواح سُدى فإن الأمر لم يكن أبداً يستحق، وحينما يصبح التسول هو عنوان مرحلة ممتدة، لا نهاية لها، فإن الأمر لم يكن أبداً يستحق.
إذن، نحن أمام ملهاة كبيرة، عاشها الشعب المصرى بكل أطيافه، من مثقفين ومتعلمين وأُمّيين، من رجال ونساء وأطفال، من موظفين وعمال وعاطلين، الملهاة عاشها الحكام والمحكومون سوياً، عاشتها الحكومات المتعاقبة، كما عاشتها النقابات، كما الجمعيات، عاشها معنا أبناؤنا فى الخارج، كما العالم الخارجى، كما المنظمات الدولية، ففى الوقت الذى يتذكرها البعض فى الداخل بسخرية وتندّر، هناك من يتذكرها فى الخارج بنفس الطريقة، إلا أن هناك بالتأكيد من سيؤرخ لها بالدموع، وهناك من سيؤرخ بالدم، ولِمَ لا، فقد سالت دماء كثيرة وعزيزة.
بالتأكيد، البكاء على اللبن المسكوب لن يُفيد، ضرر التنقيب فى الماضى أصبح أكثر من نفعه، سياسة تصفية الحسابات ثبت فشلها، سياسة الانتقام باتت عبثية، فقط كان يجب لم شمل المجتمع، لم شمل الشارع، هى فضيلة حُسن النية التى لم يفطن لها السابقون، هى سياسة الصفح والعفو التى لا يعيها الكثيرون، هى طَى صفحة الماضى بكل ما حمل من مآسٍ، هى الصفحة الجديدة التى كان يجب أن يلتف حولها الجميع، سياسة «فرّق تسد» لم تفلح ولن تنجح.
هذه هى الحقيقة، مجتمعنا ليس فى حاجة أبداً إلى مزيد من الدماء، ليس فى حاجة أبداً إلى مزيد من الفُرقة، لم يكن فى حاجة أبداً إلى مزيد من السجون، لم يكن فى حاجة أبداً إلى مزيد من الاقتراض والديون، لسنا فى حاجة إلى هاربين من ثأر، أو إلى أيادٍ مُلطّخة بالدماء، ما هو مؤكد أننا فى حاجة إلى روح جديدة، بوجوه جديدة، بأفكار جديدة، مفعمة بالخيال والإبداع، وإلا فإن الأمر لم يكن أبداً يستحق.