أفرزت ثورة يناير، بعد خمس سنوات، عجينة غريبة، كأنها نتاج الطاحونة، «الدوامة- البئر العميقة- الترعة المُخضّبة بالوسخ- المعجونة بالطحالب والديدان ومياه الصرف الصحى- تروى زرع الأرض- ويشرب منها الناس والماشية ويستحمون فيها»، هكذا حال بلدنا وصل فيه الخلل إلى ذروته، وتراكمت فيه العتامة والجاهلية القاسية شديدة الوطأة، هكذا بعدما أظهرت الثورة أجمل وأنبل ما فيها، طفح الغث منها، طار كالخفاش والذباب، طيلة أربع سنوات، ليكوِّن مأساة، مجموعة من السلوكيات الاجتماعية الجانحة والعلاقات شبه الإنسانية البشعة.
الناس لا تسأل عن الثورة ولا متى قامت!! هم في حالة إلهاء شديد، حُمّى الأسعار، عبوسٌ شبه دائم على الوجوه، في الشارع، في المترو، في القرى، في النجوع، والثورة (مشيت.. راحت.. غارت)، تركت وراءها مجموعة من الاضطرابات النفسية، بعضها غائر عميق مؤلم، وبعضها واضح صريح فاضح، يسمَّى بعضها في أخف درجاته الاكتئاب الحياتى، والآخر ذُهان صريح، جنونٌ كالغول يحتل مساحة القلب والرئتين ولا يتركها، يتمحور حول الثورة وأحداثها.
تفشَّى المرض النفسى وازداد الوعى، صرت أرى مرضى لم أرَ مثلهم قط قبل يناير 2011: صبى جزار، صاحب عربة فول، سائق تاكسى، سائق توك توك، صبى منجِّد، مساعد نجار موبيليا، أمين شرطة، ضباط شرطة، أُميون، صغار فلاحين، صغار الموظفين، ناس من النجوع والقرى في عمق النوبة وأسوان، ستات بيوت وموظفات في الجهاز الإدارى للدولة يتبادلن حبات الترامادول (عقار مخدر ومُسِّكن قوى يُستخدم أساساً لتخفيف آلام مرضى السرطان)، وينشرن ثقافة تعاطيها في كمياتٍ صغيرة نصف حبة، حبة، حبة ونصف، من أجل قتل الإحساس والشعور، من أجل استمرار العمل في البيت والشغل «كالحمارة» لا تكل ولا تشتكى، زوجات من الطبقة العليا، في الأربعينيات، يخُنَّ أزواجهن مع شباب في العشرينيات، يمارسن معهم الجنس وهم تحت تأثير المخدرات، ويتلقين منهم الإهانة، علاقات غرامية وجنسية في شركات القطاع الخاص، مع نساء متزوجات وعذراوات في مُقايضات لزيادة الرواتب والمكافآت، مديرو بنوك شهيرة يفرطون في تعاطى الهيروين، أطفال دون الخامسة ودون العاشرة يعانون من اضطرابات حركية، ومن ضعف التركيز والتحصيل الدراسى، وآخرون مراهقون ورجال مسؤولون يدمنون ألعاب القتل اللذيذ والدم والذبح في البلاى ستيشن لساعات طويلة.
■ ■ ■
انتقلت مشاهد حرق الكنائس وضرب النار من الشوارع والساحات والميادين إلى الجالسين على الكنبة، كما انتقلت إليهم مشاهد الدمار في سوريا والعراق، ومشاهد الذبح ورسائله من داعش، دخلت عنوةً واختياراً إلى عُقر دارهم في غرف الجلوس عبر الشاشات المضيئة. مما أكل حساسية المصريين تجاه العنف، كما تأكل دودة القطن أوراقه، مُفسدةً قلبه. نقلت وقائع 28 يناير 2011 إلى الناس في بيوتهم، وتبادل الناس قصص سرقة السيارات ومداهمة البيوت في كل مكان.
بدأ كثير من الناس يشترون الأسلحة ويربّون الكلاب المفترسة، يُعلون أسوار فيلاتهم ومصانعهم، مما خلق جوًا من الذعر، وحالة مستمرة من الخوف والرُّهاب ونوبات الهلع.
لا نعنى بسرد بعض الأمراض والأعراض أنها نشأت بشكل مطلق بعد ثورة يناير 2011، لكنها- في أغلب الأحوال- كانت كامنة في العقل الجمعى المصرى، وفى باطن الذهنية العامة للناس، وما إن قامت الثورة بكل ما لها وما عليها وما تلاها، من جرائم وموت ودماء واستقطاب وعذاب وضنك وآلام، ساهمت إلى حدٍ كبير في اختراق الإنسان المصرى بأعراضٍ واضطرابات، من خلال النقاط الضعيفة والهشة، التي تعرَّت بفعل ما حدث من ظروف، علمًا بأن كثيرًا من هؤلاء المُصابين كان لديهم استعداد بيولوجى، ساهم في تزاوجه مع البيئة المحيطة الضاغطة على اكتمال الأعراض وظهورها بشكلها المُحدَّد والمختلف.
تلك الأمراض والأعراض والاضطرابات ليست منعزلة عن الواقع السياسى الاجتماعى الأسرى في الشارع والبيت والشاشة، التوحد مع الأحداث، مع الجيش في الطريق، مع تقلبات السياسة، مع أسماء محددة، وأماكن محددة، مرسى.. السيسى.. رابعة.. البلطجية.. الشهداء.. التعذيب.
أهمها كانت حالات العُصاب أي «مجموعة من الاضطرابات النفسية» يكون فيها الإنسان كئيبًا بائسًا كظيمًا ومكروبًا، يحس بمرضه ويعيه ولا يفقد الصلة بالواقع، ولا تكون لديه هلاوس أو ضلالات، يمكن أن يعانى من أعراض جسدية، الوسواس القهرى، التوتر، الضغط العصبى، كرب ما بعد الصدمة، الرُّهاب بأنواعه (الفوبيا)، والهيستيريا.
حالة «صالح» (وهذا ليس اسمه الحقيقى)- 20 سنة الآن في 2014- اشترك فاعلًا أساسيًا في الثورة وهو بعدُ في المدرسة الثانوية (كان عمره 16 سنة وقتذاك)، الآن يدرس في كلية السياسة والاقتصاد باللغة الإنجليزية، الأم تعمل في مجالٍ تربوى، والأب من خلفية ثقافية سياسية. يقول «صالح»: «أنا مُقتنع بالثورة بدرجةٍ مرضية، مهووس بها وبأحداثها، كلما شاركت في فعالياتها أكثر زاد وسواسى القهرى، تطير الفكرة كالطائر فوق رأسى، تنقر فيه في مواضيع مختلفة منه، حينما أفتح الإضاءة وأغلقها في أي مكان أردد (قتل، قتل، قتل)، إنها كلها أفكار، سأقاطع كل المنتجات الأمريكية، المنظومة الرأسمالية كلها مشتعلة»، يدور داخله صراع عن أمور حيوية، تراوده أحيانًا بعض الأفكار البارانوية (الاضطهادية): كأن أحدًا يُحبه سيقتله، وأن أصحابه سيؤذونه، يقول أنا مش أناركى «Anarchy»، وهكذا كان التشخيص، اضطراب الوسواس القهرى الشديد، تدور حول أفكار إنسانية، سياسية، وحول الموت.
■ ■ ■
الاضطِرابُ الوَسواسى القَهرىOCD نوعٌ من اضطرابات القَلَق. تكون لدى الأشخاصُ المُصابين بالوَسواس القهرى أفكارِ متكررة مزعجة تأتيهم. تُدعى هذه الأفكارُ «وَساوِس». يحاول الشخصُ المُصابُ بالوَسواس القهرى تكرارَ فعل أشياء معيَّنة لطرد الوَساوِس عنه. وتُدعى هذه الأفعالُ المُتكرِّرة باسم «الأفعال القَهريَّة». من الأمثلة على الوَساوِس نذكر الخوفَ من الجراثيم، والخوف من ترك الباب مفتوحاً. ومن الطبيعى أن تكونَ الأفعال القَهريَّة المتَّصلة بهذين الوَسواسين هي تكرار غسل الأيدى والعودة دائماً إلى البيت بعدَ المغادرة للتأكُّد من إغلاق الأبواب. وتكون الوَساوِسُ والأفعال القَهريَّة المرتبطة بها كثيرةَ التواتر والشدَّة، بحيث تترك أثرًا على حياة الشخص في عمله وبيته وعلاقاته مع أصدقائه. وإذا لم يُعالج اضطِرابُ الوَسواس القَهرى فمن الممكن أن يسيطر على حياة الشخص. إنَّ السببَ الدَّقيق لاضطِراب الوَسواس القَهرى غيرُ معروف. ويعتقد الباحثون أنَّه يُمكن أن يكونَ ناجماً عن عدم توازن كيميائى في الدِّماغ أو عن خللٍ في «تَوصيلات» الدِّماغ. يميل هذا الاضطرابُ إلى التكرُّر في العائلة الواحدة. وتبدأ الأعراضُ في مرحلة الطفولة أو المُراهَقة عادةً. وغالباً ما تتكوَّن المُعالجةُ من مزيج من المُعالجة الدوائية والمُعالجة النفسيَّة .
kmfadel@gmail.com
www.kaahe.org