محمد المزينى يكتب .. فى مصر.. كانت لنا أيام

اخبار الأربعاء 10-02-2016 21:16

فى زيارتى الأخيرة إلى مصر، وعلى حس العادة السنوية المتجاذبة مع إيقاع معرض القاهرة الدولى، كانت لى أيام وليالٍ برفقة عدد من الأصحاب الأفاضل عاشقى الكتاب ومبدعى الكلمة الباحثين عن المعرفة. هذه العادة لم تنقطع سنوات طويلة، حتى مع أزمات مصر، من أهمها ثورة 25 يناير التى عشنا بعض تفاصيلها، فرأينا بأم أعيننا لحظة التحول السياسى الذى كانت تشهده مصر، فكم كانت تجربة فريدة من نوعها لنا، لا نفتأ نتذكر تداعياتها وما خلَّفته داخلنا من رؤى وتصورات، ونقيس- وفقها- تأثيراتها المستقبلية، وما استحدثته على الأصعدة المصرية كافة «السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية».

فى كل عام، نقرأ- انطباعياً- الواقع المصرى من خلال ما نراه ونسمعه ونتماسَّ معه مباشرة فى تعاملاتنا اليومية، فما يُقال ويتردد فى أجواء شعبوية مصرية مشبعة بالحاجة المشتملة على الترقب كثيراً جداً، فى هذا العام كان قياسنا مختلفاً بعض الشىء، فالمصرى الذى كان بعد الثورة مشرئب الصدر، مرتفع الرأس، معتزاً ومفاخراً الشعوب الأخرى بثورته الخالدة على كل أدوات القمع السياسى، لايزال ينتظر العائد الكمى والنوعى لثورته، فهو عندما يتحدث فإنه يتحدث عن ثورتين: ثورة يناير 2011، وثورته الفرعية بانتصار جزئى على حكومة الإخوان التى انقسم حولها الشعب المصرى عام 2013، ليعود الحكم إلى قبضة العسكر تحت مظلة ديمقراطية لاتزال الشكوك تنتابها، وما بين مؤيد ومعارض، تتحرك السياسة المصرية داخلياً وخارجياً باتجاه محفوف بالمخاوف، وهو ما أثَّر سلباً فى الحياة العامة.

فى شقة صديقنا الكريم فى مدينة نصر، التقينا واحداً من أهم الصحفيين المصريين السابقين فى صحيفة الأهرام، وهو من الذين كانت لهم مواقفهم الإعلامية المشهودة الإيجابية من الثورة، ومواقف أخرى ساخنة سلبية من حكومة الإخوان، التى مقتها وعبَّر عن كرهه لها على صفحات «الأهرام»، إذ وصفها بـ«السياسات التعسفية التى كادت تأخذ البلاد إلى منحدر وعر»، من مؤشراتها تدهور الحرية الإعلامية، التى كانت حقاً مشروعاً له خصوصيته بمقتضى القوانين المساندة لها، تحدث كيف بدا تأثير العسكر سلبياً على المقاومة الوجودية لوسائل الإعلام، وهو ما دفع بالعديد من القنوات الفضائية إلى التوقف، كما قلَّص نسبة توزيع الصحف اليومية الكبرى، ومنها صحيفة «الأهرام» القومية العريقة، التى تراجعت نسبة توزيعها من مليون نسخة يومياً إلى 100 ألف، وهو رقم له مؤشراته العميقة. قد نقول إن السبب يعود إلى تزايد ونمو وتيرة تأثير مواقع التواصل الاجتماعى الحديثة، إلا أن هذا لا يعنى قطعاً دحرجة الصحف العريقة والمؤثرة إلى حد الكساد.

اليوم نستشعر مخاوف الشعب المصرى، الذى صفق بحرارة للسيسى بعد إطاحته بمحمد مرسى وجماعته، من أن يفشل فى تلبية مطالب شعبه، وهو ما يضطره إلى الخروج إلى الساحات والميادين فى ثورة تصحيحية ثالثة فى أقل من خمس سنوات، ولكن من رؤية فاحصة واقتراب لصيقٍ وتتبع لواقع المصريين فى ظل المتغيرات الأخيرة، يمكننا القول- رأياً لا حكماً- إن مصر الحضارات والتاريخ تشهد حالياً فصولاً أخرى تسحبها بقوة إلى الوراء، فى الوقت الذى تتقدم فيه دول أخرى كانت قبيل سنوات تقبع فى أزمات شرسة، تنهشها من كل جانب لتستيقظ وتنهض من سباتها وتمشى باتجاه المستقبل، بينما تفيق مصر بعد الثورة على واقع اقتصادى مُزْرٍ لم تستطع حتى اليوم تجاوزه.

فى زيارتنا إلى ابن صديق لنا فى الإسكندرية، رأينا على امتداد الطريق الصحراوى كيف تحولت الصحراء إلى واحات زراعية على طول الطريق، هذا قطرة فى بحر الأرياف والمناطق الزراعية التى تُسقى من مياه النيل، والأراضى الأخرى المستصلحة وما يترافق معها من مشاريع عملاقة، ومع ذلك لا تكاد تلبى المتطلبات الاقتصادية الحقيقية لمصر، وارتباك الاستثمارات الأجنبية بعد الثورة بما يصل إلى أربعة بلايين دولار منذ قيامها، لتسجل أدنى مستوياتها بسبب الانفلات الأمنى وعدم الاستقرار السياسى، كل هذا ترك أثره فى الواقع المصرى.

كان صديق رحلتى يتساءل بصياغة أخرى للسؤال القديم: أيهما يُقَدَّم على الآخر: الحرية أم رغيف العيش؟ مستشهداً بقوة الصين الشعبية الصناعية الصاعدة بـ«وتيرة عالية»، والتى قدَّمت العيش على الحرية، معتمدة فى ذلك على الفلاحة كأساس لنهضتها، وهى بذلك تتشابه إلى حد كبير مع مصر فى بيئتها الفلاحية، حتى أصبحت أكبر قوة زراعية فى العالم.

الاختلاف يكمن فى قدرتها على ضبط شعبها بما يتماشى مع طموحات الوطن المستقبلية، خصوصاً وهى تنمو بشكل مطرد وسريع فى عدد سكانها، وهو ما كان يهدد بمجاعة ماحقة لولا استنفار القوة فى ضبط 1.3 بليون نسمة، وصياغتهم سياسياً وتعليمياً واجتماعياً فى مشروع وطنى حقيقى، لتحتل الصين فى أقل من 20 عاماً مكاناً متقدماً فى مصافّ الدول الصناعية، فمتى أرادت مصر ومعها بقية دول العالم العربى أن تقضى على الفوضى، عليها أن تتضافر فى جهودها لصياغة مشروعها الوطنى، لأجل تحقيق حياة أفضل لسكانها، وهذا له شروط قاسية، منها: إعادة صياغة مفهومنا للحرية بحيث تتجه للبناء، وأن تتخلص الأنظمة من استثماراتها الشخصية على حساب المصالح العامة، وأن تكون تحت مظلة القوانين وتتحمل وزر أعمالها مثلها مثل أى نسمة تتحرك على الأرض، وأن تكون القوة الرادعة لمخالفى النهج العام هى الوسيلة المثلى لبتر أدنى ظواهر أخلاقية سيئة قد تُخل بالمشروع الوطنى المصمم لأجل الارتقاء بالبلد، وأن توجه شعوبها للانغماس فى العمل الحقيقى الجاد الذى سيحقق لهم معدلات معيشة ممتازة، وأن يُعاد النظر فى أساليب التعليم العتيقة، بحيث يبرمج التعليم وفق متطلبات العمل الحقيقى، مع دعم المشاريع النوعية الخاصة والإفادة من الخبرات الأجنبية، ونحن نتخيل ما يمكن أن يحدث لو انتهجت مصر نهج الصين الشعبية فى سياساتها اجتماعياً واقتصادياً وتعليمياً، باستثمار إمكاناتها ومواردها الطبيعية، عندها ستستعيد مكانتها اللائقة بها فى العالم العربى، والعالم أجمع، عندها لن يحتاج الشعب المصرى إلى ثورة مدمرة. كان هذا جزءاً من نقاش طويل دار بيننا فى شقة صديقنا، ومثله لقاءات كثيرة كانت تجمعنا فى منزل صديق أو مقهى.

سر مصر أن الحرية مكتسب تاريخى طبيعى، تشكل منه نسيج المجتمع المصرى، واصطبغت به الصالونات الثقافية، والمسارح، ودور الفن، وصالات السينما، وهو- رغم كل هذه الأزمات- ما يجعلنا متعلقين بها. ما يُزعجنا أننا نرى مصر العظيمة تنسحب إلى إرادة وتوجيه ثقافة مستوردة أقل منها، فحذت حذوها حتى تلوثت بها مناحى الحياة. إن لم تفق فستجتاحها هذه الثقافات الهامشية كالأوبئة، وتقضى على ما بقى لها من خصوصية.

نقلا عن جريدة «الحياة» اللندنية