لو شاهدت ميار وقد بدا الاستغراق على وجهها الطفولى، لقلت إنها تحاول الوصول لسر القنبلة الذرية. ماما لاحظت أنها تأكل طعام الأفطار وهى شاردة. تمضع اللقيمات القليلة بطريقة ميكانيكية. بابا لاحظ النظرة الغبية التى تبدو فى عينيها كلما وجه إليها سؤالا. طارق أخوها لم يلاحظ شيئا لأنه يعلم غرابة أطوار أخته، وأن هناك- بلا شك- نزوة قادمة.
وفجأة انتفضت ميار، وتركت المائدة. وراحت ترتدى ثيابها بسرعة، وقد بدا عليها العزم الأكيد. قالت لأبيها بلهجة حاسمة: «بابا ادينى ألف جنيه».
كاد بابا أن يغشى: «ليه؟».
تنهدت ميار فى شجون، وكأنما سألها والدها عن أمر عظيم. بالأمس كانت تشاهد التليفزيون حين عرض مشاهد مبهرة للدورة الأوليمبية. بعيون مسحورة راحت ترنو إلى عبقرية الجسد البشرى، حين يبلغ فى مرونته وسرعته ولياقته آفاقا لا تصدق. من ألعاب القوى، حيث تصبح سرعة ردود الفعل أقرب للقرود، إلى السباحة بسرعة خاطفة، إلى الركض الذى يسابق الريح. إلى مرونة الجسد المذهلة فى الجمباز، إلى الألعاب الجماعية المبهرة. راحت ميار ترمق الأبطال الأوليمبيين فى إعجاب. وتتذكر نفسها، وتتحسر على حالها. إنها بالمقارنة لهؤلاء الأبطال لا تستحق الحياة أصلا.
ولكن كلا. انتفضت ميار فجأة، وقد بدت الخطورة على ملامحها الطفولية. ميار ستُبعث من جديد، ستمارس الرياضة، وستعدو أسرع من الريح الخاطفة، ستنثنى كالحبال وكأنها لا تحتوى على عظام. ستقفز حتى تلمس السحب وتداعب الطيور التى ستنظر إليها فى دهشة.
قالت ميار وهى تتنهد: «عشان اشترى حذاء وزى رياضى». قال بابا باكيا: «أنا باشتريهم بميت جنيه وبأحس إنى اتخميت». ردت ميار فى كبرياء: «أنت بتسترخص وتجيب صينى وأنا باجيب ماركة. خلّص يا بابا وما تعطلنيش».
■ ■ ■
وحان اليوم الموعود. لم تكد ميار تنام هذه الليلة إلا لماما. استيقظتْ فى الصباح الباكر، وارتدت زى الرياضة والحذاء الماركة، وذهبت إلى النادى لتركض. استنشقت الهواء البارد فى استمتاع. وراحت تنظر إلى الشبابيك الموصدة وتفكر.. إنهم نائمون. مسترخون. لا يدرون أن ميار، البطلة الأوليمبية القادمة، تمارس تدريباتها الشاقة من أجل أن تصبح فخرا لبلادهم. ترقرقت دموع ميار وهى تتخيل نفسها بطلة تنس، الكرات تُصد وتُرد، وهى كالصقر تنقض عليها، والجماهير تصرخ من المتعة. ثم تكتسح منافستها التى هى بطلة العالم، وتتوج ميار أول بطلة تنس فى العالم.
ومن الممكن أيضا أن تصبح بطلة العالم فى العدو. لم لا؟ ستسبق الريح حين تسابقها. أو بطلة كرة طائرة. أو كرة سلة. ولكن كلا. لا داعى للألعاب الجماعية التى يتوزع فيها المجد. فلتكن بطلة سباحة. أو بطلة رمى أو بالية. ميار البطلة. ميار الرائعة.
كانت ميار قد بدأت العدو. راحت تتخيل نفسها وهى تعود للمطار حاملة معها الميدالية الذهبية. والملايين ينتظرونها فى المطار حاملين لافتات باسمها. بلالين. دباديب. لافتات. برامج تليفزيونية. برامج حوارية.
■ ■ ■
وبرغم هذه الأحلام الحلوة، فإن ميار تباطأت فى الجرى بعد خمس دقائق فقط. أحست بأنفاسها تلهث. وعضلات جسدها تئن. ثم توقفت تماما. إنها تلهث بعد خمس دقائق. يبدو أن ميار لن تصبح بطلة أوليمبية. يبدو أن فلوس بابا ضاعت كالعادة. عادت ميار إلى البيت فى تاكسى وهى تئن. لن تعاود الجرى مرة أخرى. مؤامرة. الكون نفسه يتآمر على البطلة القادمة. حرام. والله حرام.