الأطباء وأغلى لوحة فى العالم

محمد المخزنجي الأربعاء 10-02-2016 21:20

بابلو بيكاسو الفنان الأشهر فى عصرنا، كان يجيد التعبير عن أفكاره الفنية بعبارات مقتضبة، وقد قال مرة إن «اللوحة هى مجرد طريقة أخرى لكتابة المذكرات»، وثمة لوحة مبكرة واستثنائية فى طوفان إنتاجه الفنى تجسد هذه المقولة، عنوانها «العلم والإحسان»، تؤرخ لعبقرية بيكاسو المبكرة فقد رسمها عام 1897 وكانت بداية انطلاقه كفنان صغير شهير فى مدريد، وهو فى الخامسة عشرة! واللوحة بطلها طبيب يجس نبض مريضة وقد وقفت إلى جوار سريرها راهبة تحمل طفلا يلوح أنه ابن المريضة. وتعكس اللوحة ذلك التأثير العميق لوجود الطبيب الموحى بالثقة والمعلق عليه الأمل.

وفان جوخ فى الشهور الأخيرة من حياته رسم عام 1890 لوحة عنوانها «الدكتور جاشيه» بطلها الطبيب الذى اعتنى به حتى آخر لحظة، يظهر غارقا فى تفكير عميق وأمامه نبتة «قفاز الثعلب» التى اشتُق منها عقار الديجيتالس الذى كان يعالِج به فان جوخ، وبجوارها مرجعان طبيان، لمحة تشكيلية لفنان بصير تُمِسك بملامح ذلك الصراع المحتدم فى عقل طبيب عطوف على الإنسان ومقاتل صبور ضد المرض. ومن مفارقات الدنيا العجيبة أن هذه اللوحة صارت الأغلى فى العالم وبيعت حديثا بـ148 مليون دولار، بينما لم يبع فان جوخ فى حياته سوى لوحة واحدة بأربعين فرنكا!

«الطبيب» - ليوك فيلدز

أما فرانشيسكو جويا، فقد عبر عن امتنانه لصديقه الطبيب «أوجينو أرييتا» الذى رعاه أثناء مرضه عام 1812، بتصوير الطبيب المتفانى فى لوحة «الدكتور أريتا» يسند مريضه جويا ليناوله كأس الدواء، بينما جويا لا يستطيع رفع رأسه، متشبثا بغطاء السرير وعيناه واهنتان، وفى خلفية اللوحة المعتمة تلوح ظلال لأشخاص مبهمين يوحون بنذير الرحيل، وكان ضوء اللوحة كله تقريبا لا ينير إلا وجه الطبيب ومريضه، وكأن جويا يعبر بكل هذا النور عن مدى تقديره لإنسانية وهمة ذلك الطبيب فى مواجهة أحزان الروح وآلام الجسد وقسوة الحياة.

هذه الرؤية ذاتها وإن بأسى أعمق، وتقدير كبير وأليم، عبر عنها الفنان البريطانى ليوك فيلدز عام 1890 فى لوحته «الطبيب» التى رسمها بطلب من السير هنرى تال الذى عانى فقد ابنه البكر فى سنته الأولى، بالرغم من تفانى الدكتور مورى الذى أظهره الفنان فى اللوحة مكدودا ومنهوكا يسند ذقنه على يده مواصلا وجوده إلى جوار الطفل المتداعى، يفكر فى وسائل إنقاذه حتى آخر لحظة، وقد حولت هذه اللوحة الدكتور مورى إلى مثال للتفانى والإخلاص المهنى والإنسانى.

كل هذه اللوحات، إنما تعبر عن المكانة الاستثنائية للطبيب فى الوجدان البشرى، الذى هو خزانة تذكارات مشاعرنا منذ الطفولة، والتى تستمر معنا، مُستدعية ومضات نجاتنا ونجاة من نحب، ومُلازمة لأحزان وداعنا من نحب، ومن ثم صار للطبيب مكانه إنسانية رفيعة فى وعى ولا وعى كل الشعوب، وهذا يفسر ندرة الاعتداء على الأطباء حتى فى خضم الحروب الدموية، إلا ما ندر، ويعكس نوعا من الانحطاط القيمى، والجنوح النفسى الاندفاعى، بل الإجرامى. ومن هنا يكون الشعور بالخطر مُضاعفا من اعتداء حراس أمن على حراس الحياة. حالة حرجة تستدعى عناية مركزة، وعدم التنازل، وعدم الاندفاع فى الوقت ذاته.