وسط دائرة النار

محمد المخزنجي الأربعاء 10-02-2016 21:21

منذ فترة وأنا على قناعة بأننا فى حاجة ماسّة إلى التأمل لنصلح من أحوالنا، خاصة وأننا معرفيًّا وإعلاميًّا نقع بين شِقَّى رحى رديئين ومدمرين، أحدهما إعلام المطبّلين، وثانيهما أبواق المتربصين، لهذا واصلت وسأواصل كتابة ما يدعو للدهشة، كمدخل للتفكير من أجل إحسان وتجويد التدبير. لكننى عندما تابعت أنباء ذلك الاعتداء الهمجى على أطباء مستشفى المطرية وهم يؤدون عملهم فى مستشفى حكومى، ولأننى أعرف رقة حال هذه المستشفيات وثقل أعباء الأطباء فيها، هالنى الأمر، ووجدت نفسى راغبًا بشدة فى قطع التفكير، لحظة، للمساهمة فى إطلاق النفير، لأننى أدرك بجلاء أن الاعتداء على طبيب وهو فى مناوبة عمل، أمر بالغ الغرابة، وفى غاية الخطورة، ليس على الطبيب فقط، بل على المرضى أيضًا، وبأكثر من المُتصوَّر، فكيف لطبيب تُنتهك كرامته أن يُحسن، وهو فى شتات الشعور بالإهانة، اتخاذ قرار صائب ودقيق فى مهنة كل لحظة فيها تتطلب اتخاذ قرار قد يكون حاسمًا فى حياة أو موت إنسان. لهذا، أرى أن توقف أطباء مستشفى المطرية عن عملهم، لبعض الوقت، كان نوعًا من تحاشى أضرار أشد يمكن أن تحدث حال اتخاذ الأطباء قرارات تشخيصية أو علاجية وهم تحت وطأة الشعور الجسيم بالإهانة، تلك الإهانة التى تبعثر أى تركيز أو صفاء ذهنى. وهذا فيما أذكر مما تعتبره فلسفة القانون إسقاطًا للعقوبة حال اتخاذ الموظف العام خلال عمله موقفًا يمكن اعتباره ضارًّا ليتحاشى ما هو أخطر وأضر. لهذا ينبغى أن تكف حلاقيم تجريم هؤلاء الأطباء بزعم توقفهم عن العمل الإنسانى، فقد كان طبيعيا وإنسانيا ولصالح هذا العمل الإنسانى ذاته، أن يتوقفوا وهم يعانون ذروة الشعور بالإهانة المربكة للأذهان والتى يمكن أن توقعهم فى ارتكاب أخطاء مهنية تهدد حياة مرضاهم، أو على الأقل تطيل أمد معاناتهم، بدلًا من أن تزيلها أو تخففها، بينما أمناء الشرطة المعتدون طلقاء ويبدون مُحصَّنين ضد المُساءلة القانونية، مما يُزيد إحساس هؤلاء الأطباء بالقهر الذى يضاعف الشعور بالإهانة ويكثف آلامها ويشتِّت الأذهان أكثر.

صحيح أن وزارة الداخلية قدمت اعتذارًا مشكورًا ومسؤولًا عما حدث من جانحين ينتسبون إليها للأطباء الذين وقع عليهم الاعتداء، وقد هدَّأ هذا الاعتذار الأمور قليلًا، لكنه لم يحسم ولا يكفى أن يحسم جرمًا جنائيًّا ارتكبه بعض من يُفترض مكافحتهم للجريمة. ويقينى أن أمثال هؤلاء الجانحين من جهاز الشرطة قِلَّة، وإلا ما تحسّن الأمن الجنائى الذى نستشعر اطراد تحسُّنه بعد فوضى وحشية عارمة، وهذا مما لا ينجزه إلا ضباط وأفراد شرطة أسوياء تحت ظروف شديدة القسوة تترصّدهم بالقتل الخسيس يوميًّا، فى جهاز كَتَبْتُ وأكتب، أنه فى جوهر وجوده، ملمح من ملامح الاتساق مع الفطرة التى فطر الله كل مخلوقاته عليها، قياسًا على ما تقوم به شرطة الجهاز المناعى فى أجسامنا باكتشاف خلايا السرطان الجانحة التى تتوالد دون توقف داخلنا ومن خلايانا، ثم تطاردها وتقضى عليها، ولولا هذه الشرطة المناعية لانقرض الجنس البشرى فى مهده، وقِس على ذلك أيضًا مايقوم به حُرَّاس أمن خلايا النحل لإخلاء الخلية ممن يُظهِرون انحرافًا بين سكانها، والشىء نفسه فى مستعمرات النمل، وغيرها من «أمم» الكائنات الاجتماعية على الأرض، أو فى الماء، أو فى الهواء. فالشرطة البشرية إن شئنا تأمل جوهرها النقى، هى اقتداء بإرادة الله الطيبة فى خلقه، حماية للحياة وكرامة الأحياء، ولاشك أن هناك كثيرين بين صفوفها، يتمثلون هذا الجوهر النقى لمهنة ينبغى ألا نستسلم لتشويهها أو نرضى بتشوهها ونُستدرج دون أن ندرى إلى دعم مُستهدفى تدميرها، وقد جرّبنا تلك الأيام التى انكسرت فيها الشرطة، فعربد الإجرام الجنائى فى شوارعنا وحتى أبواب بيوتنا. ثم إن العمل الشرطى فى دوافع الانتساب إليه، بعيدًا عن تشويه وتلويث الفساد السياسى الذى شوه صفاء هذه الدوافع، هو ساحة للفروسية الإنسانية ومجابهة خطر الجريمة والمجرمين، والتماس مشروع للبطولة التى هى ومضة مبهرة فى مسيرة الإنسان على الأرض.

النبيل د. حسين خيرى نقيب الأطباء والمحترمة د. منى مينا وكيلة النقابة، مصريان من أصدق ما يكون وأبعد ما يكون عن ادعاء البطولة، عندما يفزعان من اعتداء همجى على أطباء داخل مستشفاهم وأثناء أداء واجبهم، فلابد أن نصدقهما، ونشعر بجسامة التجاوز، ونلتمس معهما عدالة القانون، .

لكن يبقى أن ذلك الاعتداء الهمجى على أطباء مستشفى المطرية من بعض أمناء الشرطة، لا يصح تمريره دون عقاب قانونى مُرجَّح، بقدر ما يكون إحقاقًا للحق، يكون تنزيهًا وتنظيفًا لجهاز الشرطة بالغ الأهمية من شوائب فيه، تسىء إليه وتلوث جوهر مهمته النبيلة. وقد فجَّر هذا العدوان الهمجى فى نفسى، وفى نفس كل من يتمثَّل تفاصيله الاندفاعية الإجرامية، الشعور المُفزِع بتفاقم مسلسل قبيح، متواصل العرض فى حياتنا العامة مُنذ مُدَّة، للاستهانة بكرامات الناس التى يمارسها قِلة من منتسبى أجهزة الدولة وحفنة من الأدعياء والمتطفلين والمتباهين بسوقيتهم وسفالتهم وعدوانيتهم، الذين يظنون أنهم فوق رؤوس الناس وتحت أحذيتهم العدالة، والذين لم يدركوا بعد أن ما حدث فى 25 يناير ثم 30 يونيو لم يكن فى معظمه وجوهره إلا انتفاضًا للكرامة الإنسانية ضد الاستباحة التى مارسها حُكم المحاسيب الاستعلائى ثم حكم العصابة الإقصائى. فاستباحة كرامات الناس، أقسى على النفوس من معاناة الجوع وعسر الحياة، وأدعى للانتفاض والغضب. لهذا يشكل مُستمرئو استباحة الكرامات خطرًا بالغًا على الأمة من دببة يقتلون بتجاوزاتهم، وفظاظتهم، وسوقيتهم، وجهالتهم، الدولة التى يزعمون أنهم مناصروها الحصريون، فى ظروف شِدَّة داخلية وتربصات خارجية غير خافيتين، ويكون موقف نقابة الأطباء المدافع عن كرامة أعضائها، هو إطفاء للنار لا تأجيج لها. فنار الغضب إنما يشعلها هؤلاء الذين يمارسون على الناس بلطجتهم بوهم أو حقيقة أنهم محميون بقوة ما، أو بنفوذ ما، تُنسَب إلى الحُكم، مادام الحُكم لا يتخذ من عدوانهم المادى أو المعنوى على الناس موقفًا حاسمًا، بينما تتسرع الأجهزة فى أخذ غيرهم بالشبهات، لمجرد شكاوى كيدية، أو حتى رغبة فى إهانة أو تخويف من لا يروق لهذه الأجهزة أو لأحد النافذين فيها.

لهذا لم يعُد السكوت ممكنًا، حرصًا على هذه الدولة نفسها التى تظل برغم كل السلبيات ـ التى ينبغى عدم التوقف عن كشفها وتصحيحها ـ هى سياج الأمان من الضياع فى فوضى وجحيم اللادولة، ذلك المصير الأليم الذى نُكِبت به ولا تزال شعوب شقيقة يُدمى القلب خراب بلدانها وشتات أهلها، وهوانهم على كل الناس، فى عالم أنانى، مُخاتِل، وكذوب. بينما نحن ــ بالمقارنة ــ فى نعمة نسبية بفضل صبر الأغلبية وتضحيات شهداء وشرفاء مؤسستى الجيش والشرطة الوطنيتين، وهى نعمة يتوجب الحفاظ عليها وتنميتها وتنقيتها من شوائب وطُفيليات البلطجة، والتطبيل، والاستباحة، والشرشحة، وقلة الأدب. فهذه كلها أخطر ما تكون على الدولة بالمجمل، وعلى جهاز الشرطة الذى يُظلَم شهداؤه وأسوياؤه بانحطاط نفرُ قليل منه، وخطر على المجتمع قيميًّا وسلوكيًّا، فاستباحة الناس لفظيًّا وابتزازهم وتهديدهم عبر وجوه قميئة تنتسب إلى الإعلام زورًا وبهتانًا، إنما تكرّس لبهيمية الاستباحة، التى تتردد أصداؤها فى فوضى الشوارع، وفُحش الزعيق، ووحشية التحرش، وليس مُستبعدًا أنها تُشكل قاعدة لوضاعة العدوان الجسدى الذى يبلغ حد القتل. لهذا كله، أوقن أن دفاع نقابة الأطباء عن كرامة أعضائها سلميًّا وقانونيًّا، فى مواجهة أية إهانة أو استباحة أو عدوان، ما هو إلا إسهام حضارى فى الحفاظ على النعمة النسبية التى نحظى بها، مقارنة بآلام شعوب حولنا، لأنها تروم سوية الدولة، وسوية الشرطة، وسوية المجتمع. فاستمراء الإطاحة بهذه السوية، هو طريق التفافية خبيثة لإضاعة ما تحصّلنا عليه من قلب الفوضى، ولا نزال، بدم الشهداء وبسالة شرفاء ضباط وجنود الجيش والشرطة، المُستهدفين، والذين ينبغى أن نتشارك معهم فى تفويت الفرصة على مُستهدفيهم، لأن النيل منهم، هو سبيل المجرمين للنيل منا. وهذا لا يعنى أبدًا التصالح مع من أجرموا فى حق أطباء مستشفى المطرية وغيرهم. ردعًا لأمثالهم من الجانحين، وتنزيهًا لغيرهم من الأسوياء، وإقرارا بفضيلة سيادة وإعمال القانون، القانون جيد التشريع، لاسيِّئه، وهذه قصة أخرى!

ثم، متى نكف عن شيطنة جموعٍ ما، أو جهاز ما، أو مهنة ما، لمجرد أن جانحًا أو جانحين منها يقترفون مخالفات وجرائم أخلاقية أو جنائية؟ بهذا التعميم الذميم جرى ويجرى الآن، باستعماء وغباء لا نظير لهما، تشويه كل منتسبى مهنة الطب لأن طبيبًا أو عددًا من الأطباء يسيئون إلى مهنتهم، أو يُتهَمون ظلمًا أو جهالة بإساءات ليست إلا مخاطر مهنة وعواقب محتملة فيها، وهذا ما جرى ويجرى مع آلاف ضباط وأمناء الشرطة الأسوياء، بجريرة جانح أو جانحين منهم، وأحيانًا بلا جريرة إلا الاستباق بسوء الظن. متى نكف عن قراءة عناوين مواضيع صحفية وإعلامية من مثل «عدوان الشرطة على الأطباء» لأن أمين شرطة أو أكثر ارتكبوا جُرم الاعتداء على طبيب أو مجموعة أطباء. فهذا التعميم ــ كمثال قريب الحدوث ــ أغرى أحدهم بأن ينتحل صفة ضابط شرطة ويعتدى على ثلاثة أطباء فى مستشفى بنها الجامعى. وقد سارعت بعض الصحف وهوجة مواقع الإنترنت بتصدير الخبر الكذوب هكذا «ضابط شرطة يعتدى على طبيب أمراض نساء فى مستشفى بنها الجامعى»، ثم ثبت أنه ليس ضابطًا ولا مَن يحزنون! لنكن عادلين، حتى فى احتجاجنا على ما لا نرضاه، ليس لأن هذا أدعى للتقوى فقط، ولكن لأن هذا أحفظ لقوى المجتمع الذى لا يحتمل المزيد من الهشاشة.

ختامًا، لا صُلح مع من اعتدى واستباح وأجرم من جانحين فى جهاز الشرطة، لكن الصلح واجبُ عدلٍ وحقٍ ومصلحة مجتمعية ووطنية، بين الأطباء، والشرطة كجهاز قدم آلاف الشهداء فى مواجهة من يطمحون إلى اختطاف هذا البلد وأهله. لهذا أتصور أن يقوم مجموعة من ضباط وأمناء قسم شرطة المطرية - غير الآثمين - بزيارة ودية لأطباء المستشفى المعتدى عليهم لتطييب الكرامات وتصفية النفوس، وتأكيد التواد الوطنى، والمنطقى، بين حراس الأمن وحراس الحياة. مصر فى حاجة ماسّة لشرطتها ولأطبائها ولكل من يحرس أمنها ويحافظ على أمانتها. فنحن وإن كنا فى نعمة نسبية، تتطلب تنقيتها وتنميتها، فإننا لا ينبغى أن نتجاهل وجودنا وسط دائرة النار.