لماذا لا يجب أن نندهش من التجربة الإماراتية؟!

خالد البرماوي الثلاثاء 09-02-2016 21:50

"أطلب من جامعاتنا في الدولة ترشيح شاب أو شابة تحت سن الـ25، ليمثل قضايا الشباب وطموحاتهم، أريده وزيرًا معنا في الحكومة"، و"على الحكومات أن تُركز على تمكين شعوبها، وليس التمكّن من شعوبها". على قدر ما تبثه فينا هذه الأخبار القادمة من الإمارات من سرور وإعجاب، إلا أنها تبعث برسائل أخرى للحالمين بوطن مشابه، وإدارة مشابهة، مؤكدة: "أنه لسه بدري!".

******
قبل سبع سنوات تقريبًا، كنت أرى أن التجربة الإماراتية تعتمد بصورة كبيرة على التسويق الذكي، والقدرة على تنظيم معارض وأحداث غير مسبوقة عربيًا، انطلاقًا من الإبهار بالفخامة؛ فهذا أطول برج، وهذه أكبر جزيرة صناعية، وذاك أكبر مول تجاري؛ وهكذا، حتى امتلأت موسوعة “جينيس ريكوردز” بالأرقام الإمارتية، لتستحوذ وحدها على نصف ما سجله العرب مجتمعين.

وفجأة، جاءت الأزمة المالية العالمية، أواخر 2008، وكادت أن تعصف بأحلام إمارة دبي- التي كانت تقود النموذج الحداثي هناك- لولا دعم شقيقتها الكبرى أبوظبي. وبعد أن هدأت العاصفة، الذي كان جزءا كبيرا منها مفتعلا، كان يمكن للأمور أن تعود لسابق عهدها، لتكملة نفس النهج، من تدشين مشروعات تجارية وعقارية وترفيهية غير مسبوقة، وفقط.

لكن يبدو أن الرياح التي تركتها الأزمة المالية وراءها، أتت بما تشتهيه السفن، فجعلت الإمارات كلها- وليس فقط دبي- تكتشف أن أي تنمية دون أن يكون محورها الانسان، هي من قبيل الرقم على الماء، ومن باب تسير الأمور لا تطويرها، والتجرؤ على المستقبل بنية صافية وعقول خاوية.
******

ثم بدأ على نطاق واسع، طرح هذه الأسئلة.
ما الأهم للمستقبل؟ أن يستمر الصرف بشكل مكثف على البنية التحتية، من شوارع، وأنفاق، وكباري، ومبان، وغيرها؟ أم أن يكون التركيزعلى البنية التحتية غيرالمرئية، سواء في تغير أنظمة العمل، والقوانين المعطلة، وتطوير التعليم والبحث العلمي، وبناء المهارات البشرية، وتعزيز القدرة على الابتكار والإبداع؟
باختصار، البشر، أم الحجر، أيهما أنفع وأبقي؟
وكان الاختيار، للبشر، دون أن يكون هناك خلل في بنية الأساسية، التي أنفق عليها 400 مليار درهم من وقت الأزمة المالية حتى الآن. وبدأت تظهر في الأفق مبادرات من نوع جديد، تتجرد من النمط الاستهلاكي قصير الأمد، وتتحول تدريجيا للنمط المعرفي الأبقى، وأيضا الأصعب.
"على العرب أن يعملوا معاً أو يخسروا جميعاً، عليهم أن يبادروا، فالمبادرة سحر وعبقرية وقوة، لا الآلة ولا المال، بل الإنسان هوالذي يصنع النجاح والمستقبل"، الاقتباس لمحمد بن راشد

******

مبادرات المعرفة
ويوما بعد يوم، بدأت روح جديدة تسري في الآفاق، من عينة "وكالة الإمارات للفضاء"، التي تخطط لرحلة لاستكشاف المريخ في 2021، ومدينة المستقبل الذكية، وعشرات التطبيقات لدعم تقنية IoT، ومبادرات الاستدامة والبيئة الخضراء، ومشروع أكبر مكتبة عربية مجانية، ومشروع آخر للروبوت العربي، وإطلاق أكبر مؤسسة مجتمع مدني عربية تضم 1400 برنامج تنموي،تستهدف 130 مليون إنسان.

هذا غير فتح المجال أمام رواد الأعمال العرب، وتبنى نهجًا حكوميًا-خدميًا ذكيًا وغير مسبوق عالميًا، وأخيرا كان القرار التاريخي بوقف الاعتماد على النفط تدريجيًا، هذا يحدث في دولة تملك 7.21% من احتياطي النفط المؤكد في العالم، ويتوقع أن يدخل قرارُها الجريء هذا حيز التنفيذ في غضون خمس سنوات.
صحيح، ما زال يغري هذه البلد الطموح، أن تحتضن كل ما هو ضخم ومبهر، ولكن الإبهار هذه المرة بالعلم والمعرفة، لتمثل الإمارات الآن أكبر تجمع علمي وبحثي في المنطقة العربية، ومركزا رئيسيا للعديد من الجامعات العالمية، ولم نعد نستغرب قدوم وفود من أوربا وأسيا وأمريكا اللاتينية للتعرف على تجربتها.
ولما لا، وهي الأولى عربيًا في مؤشر السعادة، واقتصادها رقم 21 عالميَا، وحكومتها الأكثر كفاءة في العالم، والأولى عالميا في مكافحة الجريمة، وضمن أفضل عشر دول في الجاهزية الإليكترونية؛ والأهم أن بها واحدة من أفضل أنظمة التعليم في العالم، وتحتل المرتبة الأولى عالمياً من حيث معدلات التحصيل العلمي للنساء.
******
ولكن ما السر؟!
البعض يقول إن وراء كل هذا إمكانات مادية حاضرة، وظروف إقليمية مواتية، وشركات عالمية وعربية داعمة باستثماراتها، ومستشارين أكفاء في كل مكان.
حسنا، لن أنقص على ما قالوا، ولكن من الإنصاف أن نزيد.
فهناك عربيًا من هو أغني، قطر مثلا؛ وهناك من هو أسبق في التنمية، الكويت؛ وهناك من هو أكثر جذبا للشركات، السعودية؛ وهناك من سوقه أكبر ويده العاملة أوفر، مصر. ولكن ما ينقص كل هذه الإمكانات لتؤتي ثمارها، هو الإدارة المحترفة، التي تعتمد على العلم والكفاءة، وليس الخرافة والعشم، وداري على شمعتك تزيد.

فالعقول المتفتحة- وسط منطقة متجمدة ومشبعة بعقيدة الانغلاق ورفض الآخر- هي السر؛ وهو أيضا الطبيعي،والاعتماد على أهل الخبرة قبل أهل الثقة هو السر؛ وهو أيضا العدل، توفير الظروف والإمكانات واختيار الأولويات الصحيحة هو السر؛ وهو أيضا عين العقل، الفصل بين ماكينة الاستشارات وماكينة التنفيذ لضمان الجودة والدفة، هو السر؛ وهو أيضا الاحتراف؛ وفوق كل هذا تأسيس ماكينة مستقلة 100%، للمتابعة والتقييم بحيادية وشفافية.
فلماذا يتجاهل العرب تقليد هذه الروشتة، رغم بساطتها؟!
"لو كانت الإدارة العربية جيدة؛ لكانت السياسة العربية جيدة، والاقتصاد العربي جيدا، والإعلام العربي جيدًا، والخدمة الحكومية جيدة"، الاقتباس لمحمد بن راشد.

******
ولكن !
من الأمانة أن نهمس لهم، أن التجربة الإماراتية تحتاج للمزيد من الخطوات الجريئة،بإطلاق مناخ الحرياتبصورة أوسع، وبنفس حكمة وتسامح بناء معبد هندوسي في أبوظبي، وتحويل البلادأكثر من إمارات الي الإمارات، مع تثبيت أركانمنظومة الحكم الفيدرالي القائمة بالفعل، والتي تجمع بذكاء بين النظام الملكي الدستوري والنظام الرئاسي.
وفي النهاية، لا يمكن أن ينجح كل هذا دون خلق مناخ من المنافسة السياسية الجادة، على أسس وطنية واضحة، مع توسيع مظلة المواطنة لتضم كل من يساهم في العطاء، دون تفرقة على أساس عرقي أو ديني.
فوسط حالة الاضطراب العربي، تملك الإمارات فرصة تاريخية لأن تكون القاطرة القابلة للتتبع والمحاكاة،وهي تصلح جدا لأن تكون النموذج "المُعدل" من الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن على أرضية من التراث العربي المتفتح، والقادر على هضم كافة الثقافات، وخلق ثقافة جديدة مبنية على مبدأ التعايش السلمي المتكافئ بين كافة الأجناس، والأعراق، والأديان.
والواقع يقول، إن نظرة سريعة على محطات بناء التجربة الإماراتية، تكفينا لنعرف أنها تسير على الطريق الصحيح، ولولا بعض التحديات والتهديدات الإقليمية المحيطة، لرأينا الكثير من الملاحظات السابقة واقعا ملموسًا.
لذا نقول، إننا لم ولن نتعجب مما وصلت وستصل إليه التجربة الإماراتية الواعدة، فحيث تكون الأمور منطقية، والنوايا خالصة، والإدارة محترفة، والتخطيط علمي، لا يكون هناك مجال للحظ، أو للاندهاش.
لكن بصراحة، عندما نسمع عن تعيين وزيرا للسعادة، وأخرا للتسامح، لأول مرة في العالم، لا يجوز الاندهاش هنا أبدًا.. الازبهلال قد يكون التعبير المناسب!

للتواصل مع الكاتب:
KhaledPress@gmail.com
@EgyPress