فاروق ظالماً ومظلوماً (27)

صلاح منتصر الإثنين 08-02-2016 21:05

الإخوان تعاطفوا مع فاروق كراهية لعبدالناصر ونظامه

أكمل مذكرات إبراهيم بغدادى، ضابط المخابرات المحترف، الذى تم تعيينه بعد ذلك محافظا لعدة محافظات، آخرها محافظة القاهرة، وقد كتب هذه المذكرات ونشرها فى جريدة الدستور الأردنية بعيدا عن مصر فى عام 1986.

يحكى بغدادى عن فاروق الذى نجح فى العمل جرسونا باسم أرماندو فى المطعم الذى اختاره فاروق محلا لسهرته معظم الليالى فيقول: كان فاروق يدخل المطعم فى الحادية عشرة مساء ووراءه مجموعة ربما من اثنى عشر شخصا تتقدمهم بنت سائق تاكسى كانت قد أصبحت فتاة فاروق المفضلة، وكان لها صوت عال مثل بنات نابولى. وكان يجلس فى مكان كُتب عليه «محجوز لفاروق» وهى لفتة كانت تعجبه. ولم أكن شخصيا- يقول بغدادى- أجرؤ على عمليات لا أفهمها ولا أتقنها خشية افتضاح أمرى مثل تقطيع الديك الرومى أو تنظيف الأسماك البحرية من الأعشاب. كنت أختفى حين يُطلب منى ذلك، وأكتفى بالأعمال الصغيرة مثل تقديم دورق مياه أو زجاجة مياه غازية أو تقديم القهوة أو الشاى، أما الأعمال ذات المهارة فكنت أتحاشاها، وكنت أردد لنفسى اسمى حتى يرسخ فى ذهنى حتى إذا نادانى أحد باسم «أرماندو» استجبت فى الحال للنداء. فالمطلوب من ضابط مخابرات فى مهمة مثل التى كنت فيها ألا يزج بأنفه فى كل صغيرة وكبيرة بحثا عن معلومات، لأن هذه الطريقة تجعل عمره صغيرا، والطريقة المثلى هى التصرف الطبيعى والتلقائى حتى لا تقترب منه الريبة. وكان ضروريا إذا سمعت على مائدة فاروق أى سب فى مصر أو فى رجال الثورة، وهذا وارد طبعا، أن أكتم عواطفى، وألا تظهر على وجهى أى آثار باعتبار أنه لا يهمنى مصر ولا ما يجرى فيها.

كان فاروق يجلس فى صدر المائدة المحجوزة له ويشرب كميات كبيرة من الشامبنيا (يوجد نوع من الشامبنيا معروف فى الغرب لا يُسكر وإنما هو سيدر تفاح وطعمه كالمياه الغازية، هى التى كان يشربها فاروق). وكان حول فاروق حرس مكون من الإيطاليين والبعض من الألبانيين يجلسون على مائدة جانبية، وكلهم مسلحون يراقبون الداخلين والخارجين ومن تحوم حوله الشبهات.

ولم أكن أستطيع البقاء طويلا فى المحل، فكنت أستأذن فى يومين أو ثلاثة أيام إجازة. وكان صاحب المحل يوافق على أساس أننى رجل غلبان هاجر أهله إلى السلفادور وأقوم بإرسال بعض النقود إليهم، إلا أننى كنت أقوم فيها بكتابة تقاريرى المفصلة إلى قياداتى فى مصر عن تحركات فاروق والذين يسهرون معه ونوعية المصريين الذين يجلسون دائما إلى موائده.

وذات ليلة غاب فاروق ولم يحضر ورحت أسأل برقة عن غيابه، فقيل لى ربما اختار مكانا آخر، إلا أنه ترامى إلى سمعى من بعض المصريين أصدقائه أنه سافر إلى سويسرا، فتولت المخابرات تجنيد من يبحث عنه هناك وتتبعه على أساس أنه ذهب لأسباب تتعلق بثروته والبنوك السويسرية، إلا أننا اكتشفنا أنه قصد فى سويسرا طبيبا سويسريا تخصص باطنى، حيث كان بسبب زيادة وزنه الذى اقترب من 120 كيلو يلهث إذا مشى قليلا فراح يتكئ على عصا.

■ ■

فى تلك الأيام من عام 1965- يقول إبراهيم بغدادى- بدأ ظهور الإخوان المسلمين فى مصر ومحاباتهم لفاروق ليس حبا فيه وإنما كراهية فى نظام عبدالناصر. وكان يصل فاروق ويسعده أخبار النشاط المعادى لمصر من منشورات مطبوعة وإذاعات توجه شتائمها للنظام فى مصر. وأحس فاروق من المحيطين به، وقد كثر عددهم، بأن الأحوال فى مصر متدهورة. إلا أن فاروق فى الواقع لم يكن له ثقل أو وزن فى هذه الأحداث، فقد كان منغمسا فى ملذاته بالإضافة إلى زياراته المتكررة لسويسرا بعد أن وضح أنه يشكو من قلبه. وحسب أحد الحراس الملازمين لفاروق فإن الطبيب السويسرى صرخ فى فاروق وحذره طالبا إليه مراجعة ما يقوم به فى حياته، خاصة غذاءه، ولكن فاروق استقبل هذه التحذيرات بالضحك.

مع ذلك يقول بغدادى إن مهمته كانت تتبع نشاط فاروق، ليس من أجل فاروق نفسه، ولكن للجماعات المناهضة لمصر التى تعمل فى روما وجنيف وباريس. كنا نعلم أن فاروق وحده لا يستطيع عمل أى شىء ولذلك ظللت أراقب ليس فاروق نفسه وإنما وجوه الجماعات التى تلتقى وتحصل على معلومات من الداخل فى مصر تصبح المادة المنشورة أو المذاعة فى إذاعة صوت مصر الحرة التى تخصصت فى الهجوم على النظام المصرى وعبدالناصر.

وذات مساء- يحكى بغدادى- وأنا أضع زجاجات المياه المعدنية على مائدة فاروق وأثناء وجوده مع المدعوين كانت تجلس إلى يمينه عشيقته (ابنة سائق التاكسى) بينما إلى يسار فاروق جلست زوجة أحد المدعوين، وفجأة تكهرب الجو وحدثت خناقة صرخت فيها الإيطالية فى وجه فاروق فتمالك فاروق نفسه ووضع يده على كتفها ولكنها نزعتها بشراسة وظلت توجه الشتائم بالإيطالية. وهاج فاروق وكاد الأمر يصل إلى حد التراشق بزجاجات المياه، فأسرعت أحملها من أمام الإيطالية الشرسة. وتطور الأمر أكثر وكاد يصل إلى حد التشابك بالأيدى، كل هذا والحرس الذى يلازم فاروق صامت لا يستطيع أن يفعل شيئا!

وعلى أثر هذه المشادة الفضيحة قامت عشيقة فاروق وانسحبت من المكان وهى تسب بصوت عال اليوم الذى عرفت فيه فاروق. وفى اليوم التالى ظهر فاروق ومعه عشيقته بنت سائق التاكسى بعد أن بدا أنه استرضاها وصالحها. وفى اليوم الثالث، وكان يوافق 18 مارس 1965، حدثت وفاة فاروق.