المؤذّن

أيمن الجندي الإثنين 08-02-2016 21:04

كان يؤذّن. بكل ما أوتى من قوة يُؤذن. بكل أشجان عمره يؤذّن. يخرج الأذان منه رطباً شجياً طويلاً مسترسلاً. وكنت أقف مستنداً على جدار المسجد، دون أن يرانى أو ينتبه إلى وجودى. أسترجع في هذه اللحظات شريط عمرى. أنا الذي أعرف أكثر من أي شخص آخر كل شىء حدث.

■ ■ ■

ما زلت أتذكره كما كان! منذ ثلاثين عاماً وأكثر. شديد الوسامة، معتدل القوام. متفوقاً في دراسته، لم يغادر فصل المتفوقين قط. له شعبية بين زملائه اكتسبها من تفوقه في كرة القدم. وما أدراك ما كرة القدم بالنسبة للمراهقين! ونظرتهم التي تقترب إلى التقديس إذا كان زميلهم يلعب في الفريق الأول. أضف إلى ذلك براعته في عزف الموسيقى وقدرته على التلاعب بالمشاعر إذا عزف على الأورج، أو داعب أوتار الجيتار وأوتار قلوبنا. هل تتهمنى بالمبالغة وكأننى أكتب عن سوبرمان؟ ماذا لو أخبرتك بأنه من عائلة عريقة جمعت الثروة مع السلطة والمناصب الرفيعة؟ وماذا لو أضفت أنه كان عذب السجايا، لطيفا مع زملائه، يندمج معهم دون أن يشعرهم بالفارق الواضح بينهم وبينه!

كنا نعتبر خروجه معنا يداً يُسديها إلينا. وكأننا نرتقى حين نعلق بالمميزين الذين اصطفتهم الأقدار. وكان يحبنى ويخصنى المودة. ولكننى- أعترف- لم أخل يوما من شعورى بتفوقه علىّ. وكان هذا التفوق لا يضايقنى أو يثير ضغينتى. لكننى أذكر أننى حسدته مرة، أو ربما لم أحسده، ولكننى شعرت بالغيرة! وماذا علىّ لو شعرت بالغيرة مرة؟ ألستُ بشراً.

■ ■ ■

ما زلت أذكر هذه الليلة الشتوية وكنا نسير في الطريق معاً. كان الليل قد أوغل، والطريق خاوياً من المارة، والسحب تداعب القمر المستدير بألعابه السحرية، يختفى حيناً ويظهر حيناً. مشرقاً فضياً، وكأنه لأول مرة يطل على العالم. ومن آن لآخر تغسلنا السحب بزخة من الماء النقى، الماء الذي هو في الأصل دموعنا، الماء الذي منه بدأ خلق العالم.

كان يحكى لى ما حدث في عطلته بالمعمورة التي كان وقتها مصيف الطبقة الراقية. حكى لى عن الحفلة الموسيقية التي أقامها، وكيف عزف على الجيتار أغانى جون ترافولتا (الذى كان نجم الشباب وقتها). وكيف رقص مع نيفين في تلك الليلة؟

وشعرت بغصة في حلقى! ويد قاسية تقبض على قلبى! لم أستطع أن أمنع نفسى من الغيرة. نيفين! الفتاة السمراء الدافئة الجميلة. رمز الأنوثة الغضة بالنسبة لى. الأنثى الحلم في وجدان فتى في مقتبل العمر يحلم بالحب واكتشاف الدهشة. ولأول مرة أشعر بالغيرة. لكن تلك المشاعر المربكة لم تدم إلا قليلا. كنت بالفعل أحبه وكان بالفعل كريما معى!

■ ■ ■

ومضت الأيام وافترق طريقنا! ومن آن لآخر أسمع أخباره. يرتقى من نجاح لنجاح! يحتل منصباً مرموقاً! ثم أعرف نبأ خطوبته نيفين! البنت الحلوة الدافئة صارت له! والرقصة الرومانسية في حدائق المعمورة توّجت بخطبة والقمر يسمع ويرى.

ما أغرب الأيام وما أعجب ما تفاجئنا به. الشاب الرياضى يمرض فجأة! نيفين تركته! شبابه تم إجهاضه. مستقبله المهنى انتهى! صارت تنتابنى غصة كلما شاهدته! أتذكر الماضى وأشقى به. لا أحد غيرى يتذكره.

وأخيراً شاهدته في المسجد وهو يؤذن. صوته عذب وشجى. هل كان يؤذن بالفعل؟ أم يرفع للإله القدير شكايته؟ الوحيد القادر على رفع الضرّ عنه وعلى تعويضه.