ما لا يُقال عن قضايا «الازدراء»

د. ياسر عبد العزيز السبت 06-02-2016 21:18

فى شهر أكتوبر من العام 2010، أصدرت شبكة «سى. إن. إن» بياناً نادراً من نوعه، قالت فيه إن مقدم البرامج الشهير «ريك سانشيز» لم يعد يعمل معها، بعدما كان أحد ألمع نجومها، ومذيعاً بارزاً لواحد من أهم البرامج على شاشتها.

كان «سانشيز» قد أدلى بتصريحات فُهم منها أنه يجرح مشاعر المواطنين اليهود، وهو أمر استدعى الكثير من الانتقادات له وللمحطة، استناداً إلى أن حرية التعبير، التى يكرسها التعديل الأول فى الدستور الأمريكى، لا تعنى أبداً «تجريح الجماعات العرقية والدينية والطعن فى أخلاق أعضائها بسبب ما يعتقدونه».

قبل هذه الواقعة الشهيرة بثلاث سنوات، أعلنت شبكة «إم. إس. إن. بى. سى» الأمريكية الشهيرة قطع علاقتها مع الإذاعى البارز «دون إيموس»، كما أوقفت بث برنامجه اليومى «إيموس فى الصباح»، بسبب ما قالت إنه «تورطه فى تصريحات عنصرية ضد بعض الأقليات».

لم تتحمل الشبكة انفلاتات «إيموس»، خصوصاً أنها سبق أن تلقت الكثير من الشكاوى من منظمات ومواطنين تطالب بالتحقيق معه، والعمل على إيقاف تجاوزاته، وهو الأمر الذى دفعها إلى الاعتذار عن «إساءات» تورط بها «إيموس» فى العام 2004 ضد الأقلية المسلمة فى البلاد.

يعد «التعديل الأول» الذى طرأ على الدستور الأمريكى عنصراً حاكماً يؤطر الممارسة الإعلامية وغيرها من الممارسات المتصلة بحرية الرأى والتعبير فى الولايات المتحدة، التى يُنظر إليها على أنها أحد معاقل الحرية بامتياز.

وينطوى هذا التعديل على فكرة حظر سن أى قانون يحد من حرية الكلام، لكنه ينطوى أيضاً على فكرة عدم سن قوانين من شأنها الحض على ممارسة شعائر دين معين أو الامتناع عن ممارسة شعائر دين معين.

يعطى التعديل الأول الحرية بيدٍ للأمريكيين، لكنه يمنعهم من سن القوانين التى تؤدى إلى تمجيد دين والحط من آخر باليد الأخرى.

يوفر هذا الاقتراب أساساً نظرياً صالحاً لفهم ما جرى مع «سانشيز» و«إيموس»، فقد أُتيحت جميع الفرص لهذين النجمين للبروز وحصد الشهرة والإعجاب، كما كانت لديهما جميع الصلاحيات التى تمكنهما من ممارسة عملهما بحرية، ولطالما تفننا فى نقد الأوضاع السائدة، وشن الهجمات الحادة على عتاة السياسيين.

لكن هذين المذيعين تجاوزا ما يمكن اعتباره «خطاً أحمر» فى نظام إعلامى يوصف بالانفتاح والليبرالية.. وهذا الخط يتعلق بأخطاء كبيرة، مثل «إثارة الكراهية»، و«التمييز الطائفى والعرقى»، و«الطعن فى أصحاب العقائد».

سيقودنا هذا إلى إيجاد تفسير لبعض «التناقضات» بين مفهومى الانفتاح وحرية الرأى من جانب، والإجراءات التقييدية التى تُتخذ بحق بعض «المعبرين عن آرائهم» من جانب آخر، فى المجتمعات الغربية.

فكيف سنفهم مثلاً أن الدستور فى ألمانيا ينص على «الحرية المطلقة للضمير»، لكن البيئة التشريعية تحظر حظراً تاماً أى دعوة لشن حرب وأى «تشكيك فى المحرقة»؟

وكيف سنفهم أيضاً ما تفعله فرنسا، التى تفرض عقوبات صارمة على «معاداة السامية»، إلى حد أن إحدى محاكمها أصدرت يوماً حكماً بالسجن ضد مفكر مثل جارودى بسبب «رأى كتبه فى كتاب»؟

ثمة تعريفات عديدة لمفهوم الأمن القومى، كما يعرف الباحثون فى علوم السياسة، لكن أحد أكثر هذه التعريفات إثارة لاهتمامى قال به الباحث «أرنولد والفرز»، الذى رأى أن الأمن القومى هو «التدابير التى تتخذها الدولة لحماية القيم الحيوية للأمة».

لا أحبذ بالطبع حجب أى رأى أو قمع أى تعبير، ولا أريد لعقوبة الحبس أن تكون جزاءً لكلام يُقال، رغم أن هذا يحدث فى بلدان كثيرة من هذا العالم.

لكننى أعرف جيداً، من جانب آخر، أن مقاربة «القيم الحيوية» لأى أمة يجب أن تكون من خلال جهد علمى وفنى خاص ومدروس، وأن تأتى فى شكل لائق ومتزن، وأن تستهدف التنوير والمصلحة العامة، وليس الرواج والفرقعة وتحقيق المكاسب الوضيعة.

فلنحمِ حرية الرأى والتعبير، على أن نفصل أيضاً بين المتسلقين التافهين والعلماء.