مسابقة تعيين بوظائف مختلفة، من بينها عُمّال نظافة- أُكرر: عمال نظافة- أعلنت عنها إحدى المؤسسات الكبرى بالدولة، تقدم لها أعداد كبيرة بالطبع، تم تعيين الإداريين أو الموظفين، بنسبة ربما لا تزيد على 1% من عدد المتقدمين الذين كان عددهم يُقدر بعشرات الآلاف، ولا غضاضة فى ذلك، وليست هذه هى القضية، المأساة هى أن كل مَن تقدموا لوظيفة عامل هم من حمَلة المؤهلات العليا، وبالفعل تم تعيين العدد المطلوب من العمال منهم.
المأساة الأكبر هى ذلك الحُزن الذى انتاب المتقدمين منهم لوظيفة عامل، ولم يحالفهم الحظ، التقيت المدير المسؤول عن هذه التعيينات مصادفة بمكتبه قبل أيام، وجدته يتهرب من استقبال الضيوف، وباستفسار بسيط، شرح لى الموضوع وهو فى غاية الهم والغم، قائلاً: «كلهم من ذوى المؤهلات العليا، وفشلوا فى الحصول على وظيفة عامل، هم من كل التخصصات الجامعية بلا استثناء، هم خريجو كل الجامعات بلا استثناء، هم من كل محافظات مصر بلا استثناء..» أقسم بالله، انقلب حال معدتى، واقشعرَّ جسدى، وكدت أسقط كمداً.
ما الذى جرى فى بر مصر، وما الذى يجرى، وكيف يمكن أن أُصدق أنها خلال عامين سوف تكون (قد الدنيا)، ما ذنب كل هذا الشباب الذى أنفقت عليهم عائلاتهم 16 عاماً على الأقل، ما بين مصروفات دراسية، ومصروفات يومية، ودروس خصوصية، بخلاف ما أنفقته الدولة، ما ذنب هذه الأُسر التى اعتبرت أن تعليم هذا الابن أو ذاك هو بمثابة مشروعهم القومى، ماذا كان الهدف من التعليم منذ البداية إذا كان الخريج سوف يعمل بالنظافة، وقلة القيمة، لا نقصد بالطبع التحقير من قيمة هذه المهنة الأشرف على الإطلاق، إلا أنها بالتأكيد لم تكن تحتاج إلى كل سنوات التعليم هذه.
بالتأكيد هناك شىء ما خطأ، ليس شيئاً خطأً بقدر ما هناك فشل عام فى سياسات الدولة ككل، التعليمية منها وغير التعليمية، ما الهدف من كل هذه المدارس، إذا لم يستفد منها الشخص، وتستفيد الدولة منها فى النهاية، وما الهدف من كل هذه الجامعات، إذا لم تكن خطط الدولة بها ما بها من وظائف تستوعبهم، وما الهدف من وجود حكومة، إذا لم تساير خططها تلك الزيادة السكانية والتعليمية، وما الهدف من وجود دولة أصلاً إذا لم تستطع استيعاب أبنائها وتقديرهم.
أعتقد أننا أمام كارثة، بكالوريوس العلوم، وبكالوريوس التجارة، وليسانس الحقوق وغيرهم، يقبلون العمل سُعاة وفراشين، ولا يجدونها، بالتأكيد حياة الضنك التى يعيشونها هى التى جعلتهم يقبلون ذلك، بعد أن ضاقت بهم السبل فى الداخل، وحتى فى الخارج، الذى لم يعد يستوعب العمالة المصرية لأسباب عديدة، أهمها ذلك الخراب الذى حاق بالعديد من المجتمعات من حولنا نتيجة كوارث ما يُسمى «الربيع العربى»، الذى تحول إلى خريف دموى، بل كابوس مزعج طوال الوقت، نتيجة الصراع على كراسى الحكم هنا وهناك، والتشبث بالسلطة هنا وهناك، وسياسات خاطئة يقودها مبتدئون للأسف، فى أُمَم لها ما لها، من تاريخ حافل وزاخر بالحضارة.
نحن نتحدث عن مصر أيها السادة، نتحدث عن المواطن المصرى، الذى ساد وذاع صيته فى معظم جامعات ومراكز بحوث وفضاء العالم، نتحدث عن عشرات الآلاف من العلماء المصريين، الذين لم يجدوا أنفسهم داخل وطنهم، فوجدوا ضالتهم فى الخارج، وكأننا نسوق الآخرين قسراً إلى الهجرة، والنزوح عن الوطن، أو حتى إلى التطرف والإرهاب، لم يَكْفِ وجود ما يزيد على ثمانية ملايين نسمة خارج الوطن، أصبحنا نطرد ما تبقى شيئاً فشيئاً، وكأن ذلك هو الحل، وأنا على يقين أن ظروف السفر والهجرة لو كانت متاحة، ما تبقى أحد داخل الوطن، إلا أن ما لا يعيه البعض هو أن معظم الثمانية ملايين يعملون أيضاً فى مهن دُنيا خارج الوطن، وهى كارثة أخرى.
لنكن واقعيين ونهتم بأكثر من ثمانية ملايين آخرين داخل الوطن، لا يجدون الآن وظائف تستفيد منهم، نظراً لعوامل كثيرة، أهمها الفشل الحكومى من ناحية، ومن ناحية أخرى إحجام رجال الأعمال عن التوسع فى سوق العمل، نتيجة فقدان الثقة فى نوايا السلطة الرسمية تجاههم، وذلك فى الوقت الذى تسعى فيه السلطة إلى الاستغناء عن سبعة ملايين عامل فى القطاع الحكومى، دون خطة واضحة معلنة، بشأن تعويضات مجزية، أو مستقبلهم المعيشى.
على أى حال، لتكن قضيتنا الأساسية هى استيعاب أبناء الوطن فى وظائف تليق بتخصصاتهم، المستفيد الأول هنا هو الوطن، ففى الوقت الذى ينظر العالم المتحضر فيه إلى مواطنيه على أنهم ثروة بشرية، يراهم المتخلفون من مسؤولى دول العالم الثالث عبئاً على المجتمعات، بينما العبء الحقيقى هم أصحاب هذه الطريقة فى التفكير.