فى كثير من الأحيان أظن، وليس كل الظن إثماً، أن هناك أطرافاً داخل مؤسسات الدولة وخارجها تريد أن تظل قضية «الألتراس» مفتوحة، لتبقى شوكة فى الظهر، ومشكلة يجرى استدعاؤها عند الحاجة، لشغل الرأى العام، وإبقاء الدولة فى صراع دائم مع فئة من الشباب، لم تتشكل شخصيتها بعد، لتجد فى أفكار مجموعات الألتراس ما يغذى بداخلها روح التمرد والرفض والتفرد، وهى سمات تظهر على الإنسان فى هذه المرحلة العمرية، وتختفى مع اكتمال نضجه، وارتباطه بالمجتمع ومسؤولياته، وهى مرحلة مر بها الجميع، وليست حكراً على هذه المجموعة، أو هذه الفئة، حتى ننبذها ونحاربها بهذا الشكل.
كنت أظن أن تقاعس الدولة والأندية ووزارة الشباب عن التحاور مع هؤلاء الشباب نوع من الخوف والضعف والهروب من تحمل تبعات الفشل فى الحل، لكننى مع الوقت بت على يقين بأن استمرار الصدام مع هذه الفئة من الشباب مطلب مُلحٌّ عند البعض، لإبقاء الدولة دون استقرار، وهنا يستوى المسؤول، الذى يتقاعس عن مواجهة المشكلة، مع الطرف الخارجى الذى يستغلها، لإظهار فشل الدولة، وإبقائها ضعيفة أمام شعبها، وأمام العالم.
وعندما أقول إن هناك أطرافاً فى الدولة، لا أملك تحديدها، ولا تسمية أفراد بعينهم، تريد لمشكلة غياب الجماهير عن ملاعب الكرة الاستمرار، فإننى أملك البيان والدليل، فالمسؤول، (ولا أقصد شخصاً بعينه، حتى لا يظن الصديق خالد عبدالعزيز أننى أقصده بحديثى) الذى فشل فى تنظيم دخول الجماهير إلى مباريات الكرة وفقاً للضوابط هو نفسه الذى نجح فى تنظيم بطولة أفريقيا لكرة اليد، كما يقول الكتاب. وفى المشكلة الأخيرة التى وقعت من «الألتراس» فى استاد مختار التتش، وهتافهم ضد بعض مؤسسات الدولة، ورموزها من العسكريين السابقين، أذكر بعض الملاحظات:
الأولى: وهى ملحوظة مدهشة (من وجهة نظرى طبعاً)، وتكشف لكم كيف أن الإعلام يزوِّر الكلام، ويحرِّفه، وينقله لنا، بالشكل الذى يخدم مصالحه، حتى لو كان المتحدث هو الرئيس عبدالفتاح السيسى نفسه، فليس مهماً لدى البعض ماذا يقول، بل ماذا يريد الإعلام للناس أن يسمعوا؟ فبعد دقائق من مداخلة الرئيس مع الأستاذ عمرو أديب، فى برنامج «القاهرة والناس»، للتعليق على قضية «الألتراس»، وجدت المواقع الإلكترونية، ومن بعدها البرامج، ثم الصحف، تتحدث عن دعوة الرئيس للقاء عشرة من شباب «الألتراس» للحوار معهم، وانقسم الإعلاميون ما بين مؤيد للمبادرة، وواصفاً إيها بأنها «جاءت من الأب الحنون»، وبين معارض ومنتقد ومهاجم للرئيس، لعرضه التحاور مع جماعة محظورة ومصنفة باعتبارها «إرهابية»، وانتقل الانقسام للجماهير فى المداخلات والرسائل، ونفس الحال على مواقع التواصل الاجتماعى، ووجدت أخباراً منشورة فى بعض المواقع الشهيرة، تقول إن جماعة «الألتراس» ستناقش مبادرة الرئيس «السيسى» بجدية، وستنتخب عشرة منها للقائه.
أما المدهش والغريب والعجيب فى الأمر فهو أن الرئيس لم يقل هذا الكلام، ولم يدع للاجتماع أو الحوار مع «الألتراس» أو غيرهم، فهذه الدعوة بنت خيال الإعلام، والحقيقة المسجلة بالصوت والصورة أن الرئيس عرض على «الألتراس» أن يرشحوا عشرة ممن يطمئنون إليهم للاطلاع على التحقيقات، والمشاركة فى لجنة جديدة للتحقيق فى حادثة بورسعيد، وهنا أنقل لكم نص ما قاله الرئيس حرفياً، ليس فقط لكشف زيف وتضليل الإعلام، ولكن لأن كلمته كانت مهمة وحساسة وبسيطة، وتفسر هذا الاحتقان، وتكسر حاجز الخوف لدى المسؤولين والأندية إزاء القضية، وتفتح الباب على مصراعيه لهؤلاء الشباب لمعرفة الحقيقة، لنستطيع فرز من سيقبلها ممن يريد للناس أن تظل على عماها، حتى تبقى المعركة قائمة.
يقول الرئيس «السيسى»: «فى موضوع الألتراس وبورسعيد. مفيش حقيقة جلية تقدر تقول إيه اللى حصل. حد أخفى حاجة. ممكن. حد خايف من حاجة. ممكن. حد مش عارف حاجة. ممكن». ويتابع: «ممكن مجموعة الألتراس تشكل من بينهم لجنة لبحث الموضوع. أصل مفيش حاجة نخفيها. تعالوا يا شباب اختاروا عشرة من اللى انتوا بتطمنوا ليهم، يدخلوا ويشوفوا الموضوع بتفاصيله. ده حيطمنكوا ويريحكوا»، ثم يتوقف «السيسى» لحظات، وقبل أن يقاطعه «أديب» يعود للكلام بقوة: «بقول لكم أنا بخاف على ضفر أى مصرى، مش بس دمه وروحه. ضفره ومش بس بتوع بورسعيد. أنا مسؤول عن دم أى مصرى، وزى ما الألتراس بيفكروا فى دم إخوانهم اللى ماتوا فى بورسعيد، بصوا لإخوانكم اللى ماتوا فى مصر كلها».
أعتقد أنه لا كلام أوضح من ذلك، لكن لزيادة التأكيد على أن الرئيس لم يعرض الاجتماع أو الحوار، هو أو غيره، مع «الألتراس» (وبالمناسبة الاجتماع مش عيب، لكنه لم يطرح من الأساس) تدخل عمرو أديب قائلاً: «يعنى مبادرة حضرتك عشرة من الألتراس تقعد مع المسؤولين؟»، فقاطعه الرئيس: «لا.. لا.. لا.. مش نقعد، تعالوا شاركوا فى لجنة نعملها تانى من جديد، نطلّع اللى اتعمل قبل كده، وشوفوا انتو كمان عايزين تعملوا إيه.. حققوا فى الموضوع».
هذا نص كلام الرئيس، دون إضافة كلمة، أو تغيير حرف، فمن أين جاءوا بحكاية المبادرة؟ وعلى أى أساس اختلفوا وانقسموا وهاجموا الرئيس بسبب دعوته إلى الحوار؟ لكن هذا هو إعلام ما بعد الثورة، يصنع القضايا التافهة، ويتجادل فيها يومين، حتى يجد قضية تافهة أخرى، وأكاذيب جديدة، وهلم جرا.
الملحوظة الثانية: لو لم يتعمد الإعلام التركيز بهذا الشكل الفجّ والمتعمد على اللافتات، وبعض الهتافات، لما انتبه ما يقرب من ٩٠ مليون مواطن لما حدث فى استاد مختار التتش، لكن هناك من يريد أن يضع «الألتراس» فى مواجهة الدولة، المهم أنه فى نفس اليوم كان التجار الجشعون، ورجال الأعمال المستغلون، يلهبون أسعار السلع والأجهزة الكهربية وغيرها، مستغلين زيادة التعريفة الجمركية على المنتجات المستوردة، فى ظل غياب رقابة أجهزة الدولة التى انشغلت ليلتها، هى وإعلامها، بلافتتين وهتافين لبعض الشباب الغاضب، أو حتى المدفوع.
الملحوظة الثالثة: أحسنت إدارة الأهلى عندما اتخذت موقفاً سريعاً من القضية، وأصدرت بياناً تدين فيه أى إساءة أو إهانة لمؤسسات الدولة: عسكرية أو شرطية، وهو أمر عادى وطبيعى ومعروف، لأن البطء فى التعامل مع هذا الحدث، كان سيدفع المتربصين إلى تحميلها مسؤولية رعاية مثل هذه الهتافات الخارجة، وأحسنت مرة أخرى عندما لم تعتذر نيابة عنهم، كما أراد البعض أن يدفعها لذلك، لأنها لم تخطئ، أما من طلب منها منع دخول الجماهير مدرجات التتش، فعليه أولاً أن يستصدر قانوناً من وزير الشباب والرياضة بتسليح أمن الأندية بقنابل الغاز، وبنادق الخرطوش، حتى يمنع الجماهير من اقتحام النادى.
الملحوظة الرابعة: حملت لافتات الجماهير وهتافاتها إساءة للسيد المشير محمد حسين طنطاوى، الذى رأس المجلس العسكرى، وحكم مصر بعد سقوط الرئيس الأسبق حسنى مبارك، واتهمته بالمسؤولية عما حدث فى بورسعيد، وهى اتهامات مرسلة، لم أجد من يخرج ليناقشها، أو يرد عليها، أو يثبتها، وللحق أقول، ليس تمسحاً فى القوات المسلحة أو تملقاً، كما يحدث من بعض المزايدين الآن: إن القوات المسلحة لم تكن موجودة فى المشهد على الإطلاق، ولم يسند إليها فى مباراة الأهلى والمصرى التى شهدت الحادثة الدموية أى أدوار تنظيمية أو أمنية، وكان حضورها خارج الاستاد هو نفس حضورها حول جميع المبانى والمنشآت الحكومية والاستراتيجية والاقتصادية، لمساعدة الأجهزة الشرطية على حفظ الأمن فى ذلك الوقت.
ويبقى السؤال اللغز: لماذا يتم إقحام القوات المسلحة فى هذه الواقعة التى صدرت فيها أحكام بالسجن على القيادات الشرطية المسؤولة عن تأمين المباراة من الداخل، وهو المكان الذى شهد الحادثة؟ ولماذا الإصرار على توجيه الاتهام للمشير «طنطاوى»، الذى تحرك سريعاً لنقل الجرحى إلى المستشفيات العسكرية، وأرسل طائرة حربية لإعادة لاعبى الأهلى، ووقف فى استقبالهم بالمطار، الأمر الذى لم يعجب البعض وقتها، وخرجت الشائعات تقول إن «أبوتريكة» رفض مصافحة المشير، فهل جاء الاتهام، أو الفهم الخاطئ، لدى البعض، نتيجة هذه الشائعة؟ وما دام الرئيس «السيسى» طرح المبادرة للألتراس وأهالى الشهداء بالمشاركة فى تحقيق جديد حول المذبحة، حتى تطمئن قلوبهم، فمن الواجب أن يبادر «أبوتريكة»، انطلاقاً من مسؤوليته كنجم، ورجل مسلم يتقى الله، ويرفض الظلم على نفسه وعلى غيره، بأن يدلى بشهادته، ويقول هل صحيح أنه رفض مصافحة المشير أم أنها أكاذيب مثل الأكذوبة التى كتبت عنها فى بداية المقال.
الكرة الآن فى ملعبك يا «أبوتريكة»، لنبدأ صفحة جديدة.