سوق (التلف لا يكون)!

نهى عاطف الأربعاء 03-02-2016 21:43


في السوق الكبير يتداول التجار بضاعتهم، يعرضونها فتعجب الجمهور ويشترون، أو يشترون بعضها، ومنهم من بات لا يشتري مطلقا، فالأسعار ترتفع والدخول تتراجع. خاف التجار من ركود بضاعتهم بعد تناقص أعداد المشترين، وتصاعد غضب الناس من عدم قدرتهم على إشباع احتياجاتهم من الأسواق لقلة المال. واجتمع التجار لمناقشة الأمر، صاح أحدهم: «أيها التجار، الناس لا يملكون مالًا، ونحن نريد المال... الناس يريدون البضاعة، ونحن لا نريد البضاعة كذلك»، رد آخر: «توقف عن تعقيد الأمور! المسألة أننا والناس نريد مالًا، ليشتروا هم به بضاعتنا ونبيع لهم نحن». وقال ثالث: «المشكلة إذًا في الأموال»، ورابع: «كيف لنا نزيد الأموال لدى العامة بحيث يعطونها لنا مقابل البضاعة؟!».
وسط همهمات الجميع، شرع التاجر الأكبر يعرض خطته بصوت هادئ، فانخفضت الأصوات انتباهًا له، قال: «المسألة ليست الأموال، عملنا ليس أن يزيد دخل الزبائن أو يقل.. نحن تجار، عملنا أن نبيع إليهم ما يريدونه»، وواصل شارحًا: «الآن هم لا يملكون المال، هذا لا يعني أنهم لا يريدون شيئًا! لا يوجد إنسان لا يحتاج لشيء... مهمتنا –أيها الكرام- وحل مشكلتنا هو أن نعرف البضاعة التي يحتاجها هؤلاء ويملكون ثمنها، ونبيعها إليهم». تعجب الحضور، وقاطعه واحد: «لكن يا سيدي، ماذا عن بضاعتنا الحاضرة؟ إذا لم تكُن أولويتنا بيع هذه البضاعة سوف تتلف»، فابتسم التاجر الأكبر وقال في ثقة: «هذه هي الخطة، أن نبيع ما لدينا دون مال ولكن بمكسب، وأنا أسميها خطة (التلف لا يكون)».
دارت عدة جلسات بين التاجر الأكبر ومجموعات التجار، مر عدة أشهر وهم يجتمعون لفهم وتخطيط والحساب وصياغة الأمر بتفاصيله. كان رواد السوق يعرفون أن ثمة شيئًا غير عادي يجري، ففي كل أسبوع كان دكان يعلق لافتة عنوانها «مطلوب للعمل» للإعلان عن وظائف غير مفهومة. فمثلا علّق محل الحلاقة هذه اللافتة لطلب شخص ذي شعر منسدل وآخر ذي شعر مجعد. وطلب صاحب محل تفصيل الملابس رجالًا ونساء ذوي قوام ممتلئ، وآخرين ذوي قوام نحيف. وذكر كل منهما أن مهام الوظيفة تستغرق فقط ساعات قليلة يوميًّا، في المقابل سوف يتم منح العاملين ميزة الحلاقة المجانية والتفصيل المجاني للملابس مدى الحياة.
بالطبع لم تكن المهن المطلوبة مألوفة لدى جمهور السوق، تردد كثيرون منهم في التقدم إليها، حتى من خاطب أصحاب الدكاكين بشأنها لم يحصل على شرح وافٍ لطبيعة العمل، فقط وعد باستلامه قريبا، وتأكيد ملح عليه بالحفاظ على مظهره كما هو، وتحذير من أن أي تغيير سوف يطرأ على هيئته قد يعرضه لفقدان الوظيفة.
بدأ صوان كبير يظهر ليغطي شيئا ما، بعد أسابيع ظهر هذا الشيء، إنه دكان كبير جدا، أو بالأحرى مجموعة دكاكين متلاصقة، لها بوابة واحدة. ثم ظهرت لافتة كبيرة تقول «انتظروا السوق الكبير (التلف لا يكون)... بضاعة مجانية لكل الرواد». وما لبث أن صارت اللافتة عشرات ملأت المدينة. صار الجميع يرتقب السوق الذي يأخذ رواده البضاعة دون ثمن.
في حفل الافتتاح انتشرت الزينات ووزعت قطع الحلوى وتجمهر الناس، الجميع يريد أن يأخذ من البضاعة المجانية، وقبل ذلك، يريد أن يفهم لماذا سوف يمنح التجار بضاعتهم دون مقابل. وقف التاجر الأكبر يخطب الناس: «رواد السوق العظماء، لقد ساعدتمونا كثيرا، كل الأموال التي أعطيتمونا إياها مقابل المشتروات ساعدتنا على الحياة وإنماء تجارتنا»، وأردف «لاحظت وزملائي التجار أنكم في الفترة الأخيرة لم تعودوا تشترون كسابق عهدكم، فكرنا كثيرا، واجتمعت الآراء على أن الأوان قد آن لرد الجميل». صاح الجمهور ابتهاجا.
ثم أوضح التاجر الأكبر: «نحن أيضا نتدارك خطأ وقعتم به في الماضي، كنا نبيع لكم سلعا مادية، لم ننتبه إلى مشاعركم الكريمة... بضاعتنا اليوم هي هذه المشاعر. دعوني أوضح لكم، بالأمس كان إذا شعر أحدكم بالجوع، فإنه يذهب لدكان البقالة، يختار الطعام ويدفع ثمنه إذا امتلك هذا الثمن، وإذا لم يملك يظل جوعانا. أما اليوم، إذا لم يملك أحدكم ثمن طعامه، فليأت إلى هنا، يدفع سعر التذكرة الزهيد جدا، ويجول في محال الطعام كما يشاء، ويشاهد الطاهي الماهر يصنع أطيب الأكلات.. هكذا حتى يزول عنه الجوع».
تدافع الناس إلى السوق الجديد، دفعوا ثمن التذكرة الذي كان قليلا حقا، ودخلوا ليقضوا في السوق ساعات طويلة. صار السوق ملاذ الجميع، من يملك أثمان الشراء يدخله، يشاهد ما يجري ويختار، ثم يسرع إلى الدكاكين للشراء. من هؤلاء مثلا، هذه السيدة الميسورة الحال التي تحلم دوما بقوام رشيق ومظهر أنيق، كانت تذهب لمشاهدة كيف يحيك صانع الملابس فساتين ترتديها الفتاة التي تعمل معه. صارت هذه السيدة تتردد كثيرا على دكان الرجل صانع الملابس لتصل إلى المظهر الذي تبدو عليه الفتاة مساعدته. كذلك الرجل الذي يتمنى لحية كثيفة ومهيبة، انبهر بمساعد الحلاق، كان يمتلك المظهر المثالي الذي يحلم به، صار يتردد على الحلاق حتى يصير مثل هذا المساعد.
أما من لا يملكون الطعام، فكان (التلف لا يكون) ساحة لأحلامهم، يدخل الواحد منهم فيرى حياة مثالية يعيشها نيابة عنه آخرون، حياة فيها أجمل الثياب وأفخم البيوت وأذكى الروائح. يذهب الواحد منهم للسوق يوميا، يقضي ساعات طويلة، أحيانا يوزع الباعة بضاعتهم التي قاربت على التلف مجانا على هؤلاء، بحيث تظل أفضل البضاعة معروضة أمام الأثرياء، ويظل هؤلاء زبائن السوق ذي التذكرة الرخيصة.