إن آخر ما كان يتوقعه العالم «روبرت لانزا» (Robert Lanza) والذي أختارته مجلة بروسبكت (Prospect) الشهيرة كواحد من أعظم 50 مفكر في العالم عن العام الماضي، أن ينتهي به الأمر بأن يكون في إنتظاره ظابط شرطة أمام باب معمله البحثي في صبيحة يوم صيفي بمدينة مارلبورو (Marlborough) الأمريكية....مسافة قصيرة كانت تفصل بينه وبين الضابط ولكن رحلةً طويلةً من الأفكار بدأت وتنامت في رأسه فور علمه بإنتظاره له «ما الذي فعلته؟» «هل تسبب تطبيق أحد أبحاث الخلايا الجذعية التي أقوم بها في كارثة لأحد الأشخاص؟» لم ينته توتره وقلقه بمجرد وصوله للضابط بل إن الأمر إزداد سوءاً عندما بادره الأخير بالسؤال:«هل أنت روبرت لانزا الذي تقوم بإستخدام الخلايا الجذعية في علاج الأمراض؟» -إذن فقد ثبتت الرؤية وهتلبس الأساور الحديد النهارده ياأبولانزا- أجاب «لانزا» بإبتسامة حاولاً فيه طمس توتره وإضطرابه «نعم أنا هو» فإذا بالضابط يفاجأه برجائه له بأن يستخدم ما يصل إليه من نتائح في علاج أبنه الشاب والذي أوشك على الإصابة بالعمي!!
«روبرت لانزا» (1956م- الآن) هو قصة كبيرة وأنموذج حي يحتذي به في العلم والفكر والحياة، ولد في أسرة فقيرة في بلدة روكسبري (Roxbury) بالولايات المتحدة الأمريكية لأب يعمل في «القمار»، ولكنه تغلب على فقره وبؤس معيشته بالذكاء والخيال والعمل الدؤوب، أستطاع أن ينشر بحثاً علمياً وهو في سن الثالثة عشر في مجلة الطبيعة (Nature) الشهيرة (لاحظ أن هناك الآلاف من العلماء الذين يقضون حياتهم العلمية كاملة دون أن يتمنكوا من النشر في هذه المجلة وذلك لصعوبة النشر بها) وقد كان موضوع هذا البحث هو تغيير لون الدجاجة بتعديل جيناتها، وأستطاع مواصلة دراسته حتي حصل على درجة الدكتوراة، ومع بزوغ موهبته العلمية وذيوع صيته تهافت عليه العلماء أصحاب المعامل البحثية المتقدمة في الجامعات الأمريكية طالبين منه العمل معهم، من أبرز إنجازاته أنه قام بإستنساخ قطيع كامل من أحد أنواع الثيران المهددة بالإنقراض، وقد كان ذلك من الحالات العلمية المهمة التي ظهر فيها الاستنساخ (Cloning) كعمل مفيد يمكن إستخدامه في المحافظة على الكائنات الحية المهددة بالإنقراض على كوكب الأرض، وفيما بعد إستطاع «لانزا» وزملائه أن يزاوجوا بين الاستنساخ والخلايا الجذعية ليظهر ما أطلقوا عليه الاستنساخ العلاجي (Therapeutic Cloning) والذي قد يتم إستخدامه في علاج بعض الأمراض.
إختيار «لانزا» كأحد أهم 50 مفكر في العالم عن عام 2015 لم يأت لتميزه العلمي فحسب، وإنما «لإنشغاله بالقضايا المحورية في العالم ومعالجتها بأساليب مبتكرة وعميقة» وذلك وفقاً لوصف المجلة، وقد ظهر ذلك في نظريته الشهيرة «التمركز الحيوي» (Biocentrism)، وهي نظرية لتفسير الكون على أساس بيولوجي وليس فيزيائي كما أعتاد العلماء على ذلك طوال العقود الماضية.
أما عن الخلايا الجذعية (Stem Cells) التي أبدع فيها «لانزا» فكراً وبحثاً وكتابةً وفي ذات الوقت أدت إلى إحتراق أعصابه وإنفلاتها عندما جاءه ضابط الشرطة بسببها، فهي أصل كل الخلايا بالجسم، حيث أنها تتكون في الجنين ولا تؤدي أي وظيفة سوي أنها تنقسم وتتضاعف، وعند مراحل معينة من نمو الجنين فإنها تتخصص لتكون الأنواع المختلفة من الخلايا بالجسم مثل الخلايا العصبية والهضمية والدموية وغيرها، وفي هذه الحالة فهي تفقد قدرتها على الإنقسام والتكاثر وتصبح متخصصة لأداء وظيفة معينة، وقد فكر العلماء ومن ضمنهم «لانزا» في إمكانية إستخدام ذلك في علاج الأمراض التي تنتج عن تحلل الأنسجة وضمورها، مثل مرض الضمور البقعي الشبكي (Macular Degeneration) والذي يحدث لجزء يسمي البقعة (Macula) في شبكية العين ويؤدي تطوره إلى الإصابة بالعمي، وما فعله «لانزا» ورفاقه هو أنهم قاموا بأخذ خلايا جذعية من أحد الأجنة وقاموا بتنمتيها تحت ظروف معينة لتتخصص إلى خلايا تدخل في تركيب هذا الجزء من الشبكية، وبزراعة هذه الخلايا الجديدة المتخصصة في أعين مرضي مصابين بالعمي عاد إليهم بصرهم من جديد!!
ورغماً عن هذا النجاح المذهل والذي يفتح كل أبواب الأمل لعلاج الأمراض المستعصية بإستخدام الخلايا الجذعية، إلا أنه لا يلاقي قبولاً من الكنيسة الكاثوليكية أو الجماعات المدافعة عن القيم والأخلاق، والذين يتبارون في هجومهم الحاد على ما يقوم به «لانزا» من أبحاث، وهذا ما جعله يشعر بالقلق عند علمه بأن ضابط شرطة كان في إنتظاره، حيث تري هذه الأطراف المعارضة أن استخلاص الخلايا الجذعية من الأجنة يؤدي إلى تدميرها وهو أمر غير مقبول أخلاقياً بل إنه جريمة من وجهه نظر البعض الذين يعتقدون أن الحياة تبدأ بمجرد التزاوج وتخصيب الحيوان المنوي للبويضة، ولذا فإن «لانزا» يعتقد أن الكنيسة الكاثوليكية ربما تخصص مكافأة لمن يأتي به حياً أو ميتاً!!
بعيداً عن ذلك فقد أنتاب «لانزا» وغيره من العلماء القلق من رفض الجهاز المناعي لجسم المريض في بعض الحالات للخلايا الجديدة الناتجة من خلايا جذعية من الجنين، ولذا فقد استطاعت مجموعة «لانزا» مؤخراً إستخدام خلايا متخصصة ناضجة – غير جذعية- من المريض مثل خلايا الجلد وتحويلها إلى خلايا جذعية بإستخدام عملية الاستنساخ، حيث يتم نقل نواة خلية الجلد بما تحمله من دنا (DNA) إلى بويضة تم التخلص مما بها من نواه، ثم يتم تهيئة الظروف للبويضة لكي تنقسم وتتكاثر فينتج عن ذلك خلايا جذعية تحمل نفس دنا المريض ويمكن تنميتها تحت ظروف أخرى لتتخصص وينتج عنها خلايا لأنسجة الشبكية أو غيرها من الخلايا المتخصصة وذلك حسب الحاجة، وبهذه الطريقة فإن «لانزا» وزملائه سوف يتجنبون غضب المدافعين عن الأجنة وذلك بعدم استخدامهم للخلايا الجذعية الجنينية، كما يمكنهم أيضاً التغلب على رفض الجهاز المناعي لجسم المريض للخلايا الجديدة المزروعة لأنها ناتجة من نفس خلايا المريض، ومن ناحية أخرى فإن هذه الطريقة تبرز لنا أن هناك جوانب أخرى مضيئة في عملية الاستنساخ يمكن الإستفادة منها في علاج الأمراض وهو ما يطلق عليه كما ذكرنا سابقاً «الاستنساخ العلاجي».
إنها حقاً ملحمة علمية أبطالها باحثون مغرمون بالعلم والتجريب وخلايا مبدعة وهبها الله لنا للإستشفاء والاستمتاع بالتعرف على ما لديها من أسرار، وأمثال «لانزا» في العلم كثيرون وجميعهم أستطاعوا أن يفعلوا ما ينصح به «لانزا» شباب العلماء من أن يواصلوا تحديهم وتجاوزهم لحدود العلم وعدم الاكتفاء بعبارة «لا ليس من الممكن» المحبطة لكل فكرة مبتكرة تبدو غير واقعية في بدايتها، ولكنها قد تحدث تحولاً في حياتنا عند تنفيذها!!