(1)
قالت معذبتي قولها المتكرر: سايب المصايب اللي بتحصل في البلد، وقاعد رايق تكتب مسلسل عن النوافذ، وتستظرف بمذكرات جدك الحجري؟
خجلت من «الروقان» وقلت: إنها الحرب.. سأكتب مقالا ناريًا عن «لعنة الزند في بلاد العند» كما رواها الأقدمون والمحدثون، أو «استحالة العدل تحت إدارة الندل» كما جاء في كتاب القاضي محمد بن عبد المنعم بن أحمد السحيمي، ولما وقعت واقعة الشاويش ضد ورقة جاويش، قلت: هذا دربي.. هذا أفضل، لكن الحوداث توالت كالسيل، والنوازل لم تترك لي فرصة لالتقاط أنفاسي: مركب تغرق بصياديها، وقطار يدهم سيارة بمن فيها، وبلد صار عاليها مثل واطيها، وبينما أنا مذهول وحائر وسط هذه المتيهة (مشوها كده لزوم القافية)، إذا بي أسمع صوت هاتفٍ يخاطبني بالبرتغالية (أي والله بالبرتغالية): «آه لو كانت حياتنا وقوفًا أبديًا أمام النافذة، آه لو استطعنا أن نبقى هناك إلى الأبد مثل سحابة تحلق عاليا وتلون الأفق».!
أفقت من ذهولي، متمسكا بالبشارة، بينما تهلل فرحًا وجه مولانا الشاعر الحكيم فرناندو بيسوا وهو ينهي قولته ويختفي داخل سحابة وردية، فقلت: إذن هي النافذة.. لا تراجع عن النافذة.
(2)
في الرسمة المنشورة لإسلام جاويش أشاهد شخصًا في الداخل المضئ يطل على عالم مظلم، وفي الرسمة غير المنشورة التي أحتفظ بها في خيالي لحمدين صباحي، شاهدت نافذةً وحيدةً مضيئة، وسط آلاف البيوت والبنايات الغارقة في ظلام المدينة، تحت سماء سوداء لا يكسر عتمها سوى «قمر أخضر». كان حمدين ساهرا يتأمل الليل الساكن وعيناه مأخوذتان إلى مستطيل من النور في بناية معتمة بعيدة، شغله كثيرا ذلك الساهر البعيد.. ترى فيم يفكر؟، وماذا يمنعه من النوم؟، تحول السؤال إلى نوع من «الونس» مع ساهر غامض لا يعرف عنه أي شيء، وتحولت نافذة الضوء في الليالي التالية إلى رفيق أمل، وشراكة يقظة، وأمل في فجر آتٍ، وشمسٍ قادرة على محو العتمة وجلب النهار الذي يوسع مجال المشاركة ليتسع لملايين بدلا من رفقاء السهر القليلين في نوافذ الانتظار.
(3)
في ذلك اليوم من سنوات الثمانينات، كنت أنظر إلى اللوحة بدهشة وأنتقد استخدام اللون الأخضر في رسم القمر، لكن حمدين يضحك ويقول: لقد رسمت لوحة أخرى بشمس خضراء.
سألته مستنكرًا: وهل الشمس خضراء؟.
قال أحبها خضراء.. أحب كل شئ أخضر.
يومها لم أقتنع، وقلت له ضاحكا: عموما دي نصيحة لمصلحتك، لكن واضح إنك مش حريص على مستقبلك التشكيلي، ضحك حمدين، وتصورت أن شمسه الخضراء مزحة يبرر بها عدم احترافه للرسم، وبعد سنوات تأملت النصائح الكثيرة التي كان حمدين يهملها من أصدقائه بالرغم من أنها في مصلحته، وتأملت أيضا النصائح التي يقبلها باقتناع ولهفة، ووجدت أنه لا يقبل نصيحة في مصلحته إلا إذا كانت في مصلحة الناس، وقد يرفض ما ينفعه لو لم يكن ينفع الناس، لذلك عدت بذاكرتي إلى ذلك الموقف وتلك الليلة، لأعيد فهمها مجددا في ضوء نافذة إسلام جاويش
(4)
كان حمدين يسكن في شقة صغيرة على نيل القناطر الخيرية، وفي تلك الليلة زاره ابن عمه «علي» الذي يدرس الفنون الجميلة، وبعد نقاشات الفن والسياسة على صوت الموسيقى دخل «علي» لينام، وسهر حمدين وحيدا، عندما راودته علبة ألوان «علي» عن نفسها، فشعر برغبة في التعبير بالرسم على الورق، لم يكن يفكر في القواعد الاحترافية ومحاكاة الواقع بقدر ما كان يعبر عما بداخله، ولما كان حلم صباحي أخضرًا، فلم يجد غضاضة في أن يكون القمر أخضر، والشمس خضراء، وأن يظل يحلم دائما ببيت تطل نافذته على الأخضر. فكل من يعرف حمدين عن قرب يعرف أن الأخضر ليس مجرد لون يحبه، لكنه هدفُ في الحياة.. إنه فردوسه المنشود، ونافذته المضيئة في صحراء الواقع.
(5)
عندما شاهدت بالأمس نافذة إسلام جاويش، كأنني شاهدت الطرف الآخر من «نافذة صباحي».. النافذة من الداخل، حيث يقف الرفيق الذي فكر فيه حمدين كثيرا متأملا في نقاط قليلة مضيئة ربما بينها نافذة صباحي نفسها، وقمره الأخضر، وساهرون آخرون من سكان النوافذ، لا يعرفهم في الواقع جاويش ولا صباحي، ربما تكون أنتَ، أو تكونين أنتِ من بينهم، لهذا فأنا عندما اخترت أن أكتب من النافذة وعن النافذة لم أكن أغيب عن الواقع، ولم أكن بعيدا عن القضايا المسفوح دمها في حلبات الأخبار، واستعراضات الكلام، لكنني كنت أفكر بهدوء يناسب الساهرين، بعيدا عن ضجيج النهار، كنت أهمس لتسمعني بعقلك قبل أذنك، وبقلبك قبل عقلك.
لهذا اسمح لي أن أواصل معك غدا حديث النوافذ من جديد بفهم أعمق وبحب أقوى.
................................................................................................
(طلة)
«في هذه الغرف المظلمة
قضيت أيامًا ثقيلة
أتحرك مثل البندول جيئة وذهابا
باحثًا عن نافذة»
(قسطنطين كفافيس)
جمال الجمل
tamahi@hotmail.com