كان تنويريًا وشجاعًا ولم يتاجر بالدين

عمار علي حسن الأحد 31-01-2016 22:47

لقد كان الأستاذ جمال البنا زاهدا مكتفيا بالقليل، فجلابيب قليلة تستر جسده، ولقيمات معدودات يقمن صلبه موزعات بلا عناية في ثلاجة قديمة تسكنها العتمة، ورأسه كان مدفونا طيلة الوقت بين أكداس من الورق والجرائد، بينما ترمي مكتبته العامرة بعض ظلها على نحافته، وهو جالس إلى مكتبه يدون ما جال بخاطر أو اختمر بذهنه في دأب وإصرار ونشاط غريب، وكأنه شاب في مقتبل حياته يسعى إلى أن يتحقق، ويجد لقدميه الغضتين مكانا في الزحام.
وهناك حلقات سجلتها معه حول التجديد في الفكر والفقه الإسلامي، والتي وصلت إلى تسعين حلقة لقد كان شجاعا جسورا، لا يهاب أحدا، ولا يخشى في الحق لومة لائم، ولم يكن لديه شيء يخسره. فلا منصب، ولا ثروة، ولا ولد. وحيد مر على الدنيا، وذهب عنها على حاله وكان يقول في ثقة: من يريد أن يعرفني على حقيقتي عليه أن يقرأ أكثر من مائة كتاب ألفتها.. سيعرفونني بعد خمسين سنة، ويردف: «لست فقيها ولا مفتيا أنا كاتب». ويقرأ عن القصور والنساء والسيارات الفارهة التي يملكها تجار الدين فيضحك ويتساءل: أين زهد العلماء والتقاة؟ وأين كتبهم التي تحوي رأيهم هم وليس ترديد آراء الغابرين كالببغاوات؟ ويقرأ عن تخبط الحركة الإسلامية في عوالم السياسة والاقتصاد والاجتماع فيقول: نصحتهم وقدمت لهم دراسات وتصورات لكن عقولهم جامدة، ومصالحهم الشخصية تطمس عقولهم وقلوبهم وقد عني البنا بقضايا العمل النقابي، فأسس عام 1981 الاتحاد الإسلامي الدولي للعمل، بعد أن استعانت به منظمة العمل الدولية في عدد من الترجمات، ومنظمة العمل العربية كخبير استشاري، وفي سنة 1997 أسس مع شقيقته السيدة فوزية مؤسسة «فوزية وجمال البنا للثقافة والإعلام الإسلامي»، وهي دار نشر ومكتبة إسلامية عامرة، تحوى أكثر من عشرة آلاف كتاب بالعربية، وثلاثة آلاف بالإنجليزية.
وأطلق البنا دعوة «الإحياء الإسلامي» التي ضمنها خلاصة فكره الإسلامي والسياسي والثقافي. ورغم أنها الدعوة قوبلت في البداية بتعتيم وتجاهل كاملين، فإنها لم تلبث أن شقت طريقها في مصر والبلدان العربية والإسلامية، ولاقت اهتماما من هيئات دولية وهذه الدعوة تخالف إلى حد كبير، وبعيد ما تذهب إليه جماعة الإخوان، سواء في أفكارها وأدبياتها أو في حركاتها وأهدافها.
وهو يُعرف دعوة الإحياء في بيان يشبه المانفستو بأنها «ليست هيئة، أو تنظيماً أو جمعية لها كيان إداري ولائحة ونظام أساسي كما هو الشأن في الهيئات والأحزاب والجمعيات. إنها ببساطة دعوة، أو حركة، أو تيار فكرى وصل إلى درجة البلورة والتنظير التي تجعل له كينونة خاصة متميزة تبرأه من السطحية أو التلفيق أو الانتقائية أو الاتباعية ولما كانت دعوة الإحياء الإسلامي تياراً فكرياً ونظرية في فهم الإسلام فإنها تصبح ملكاً لكل من يؤمن بها، فالأفكار لا تكون موضوعاً لاحتكار، وما أن ينشرها صاحبها الأول حتى تصبح ملكاً للجميع، ومع أننا حرصنا قدر الطاقة على الكمال فإن هذا لا يمنع من ظهور من يقدم لهذه الدعوة إضافة تثريها أو يكشف مأخذا فيها».
ويلخص البنا مساره بأنه يرمي إلى إعادة تأسيس منظومة المعرفة الإسلامية على أساس «إسلام الإنسان وليس إسلام السلطان»، وألف في خدمة هذه الفكرة نحو ثلاثين كتابا تعالج قضايا السياسة والمرأة وحربة الفكر والاعتقاد، والفقه والتفسير، والتنمية والحكم الرشيد، والحركات والدعوات الإسلامية المعاصرة. وبشكل عام تقوم «دعوة الإحياء» على جملة من المبادئ منها:
أن الإنسان المستخلف في الأرض هو الغاية والإسلام هو الوسيلة والعقل وما ينشأ عنه من علم ومعرفة هو ما يميز الإنسان، وهو ما جعل الملائكة تسجد له، ولذا فهو أساس النظر الديني، ولا شيء يستعصي عليه سوى ذات الله وطبيعته والعالم الآخر، والعودة إلى القرآن الكريم واعتباره «كتاب هداية» واستبعاد كل التفاسير وكل ما جاء به المفسرون، لاسيما ما يتعلق بالنسخ وأسباب النزول، لأنهم بتفاسيرهم تلك شوهوا روعة النص القرآني ومقصده بالتقول عليه وحرفه عن مساره، والقرآن يؤتي أثره بالانطباع، وهو روح الإسلام وأداة التحرير والثورية فيه، وأنه يجب ضبط السنة النبوية بضوابط القرآن الكريم، فهي أحد الأبواب الذي دخل منه أعداء الإسلام وتمكنوا من وضع آلاف الأحاديث ونسبوها إلى الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- والتي تطعن في القرآن، وتشوه العقيدة، بل تشوه صورة الرسول، وانطلى هذا كله على المحدثين، الذين اكتفوا باعتبار الإسناد دليل صحة. وقد تعصب بعض المحدثين للأحاديث وأرهبوا الناس حتى لا يعملوا عقولهم فيها أو يضاهوها بالنص القرآني، بل إن بعضهم فرض السنة على القرآن وفضلها عليه واعتبار الحكمة أصلاً من أصول الإسلام، وهي كل ما انتهت إليه البشرية من أحكام ومبادئ وأصول ثبتت صلاحيتها على مر الأجيال.
ومجاوزة السلفية وعدم الاعتداد بها، فالسلفية هي الماضوية، ولا نستطيع أن نعيش حاضرنا في ماضينا، وأن حرية الفكر والاعتقاد مطلقة، والعلاقة بين الأديان السماوية الثلاثة هي علاقة تعايش واستبعاد فكرة أن الإسلام يسيطر على كل شيء، فهو رغم أهميته القصوى، ليس إلا بعدا واحدا من أبعاد متعددة للحقيقة كالعلوم والفنون والآداب والفلسفة، التي تطلق كل منها من منطلقها الخاص، وتقدم عطاءها الذي وإن اختلف عن عطاء الدين، فإنه لا يزاحمه، ولا يستبعده
وقد تفرغ البنا منذ شبابه للتأليف فأصدر أكثر من مائة كتاب، ترجمت عشرة منها إلى اللغات الأجنبية. وأول كتاب له ظهر عام 1945 عن «الإصلاح الاجتماعي»، ثم أتبعه في العام التالي بكتاب سماه بـ«ديمقراطية جديدة». ومن أهم كتب البنا «نحو فقه جديد»، «الإسلام دين وأمة وليس دينا ودولة»، و«تجديد الإسلام» و«الإسلام والعقلانية» و«مسؤولية فشل الدولة الإسلامية» وكلا ثم كلا«و«الإسلام وحرية الفكر» و«الإسلام كما تقدمه دعوة الإحياء» و«روح الإسلام».