«لا أُنكر أن الحفاظ على دولتنا طريقٌ صعب وشاق ومحفوف بالمخاطر. أكذبكم القول إذا ادعيتُ أننى لم أُعاين مخاطر هذا الطريق أكثر من أى أحد آخر. إن القوى التى تُهاجم جمهوريتنا أكبر من القوى التى تصونها وتحميها، فالرجال المتهورون واليائسون لا تلزمهم سوى دفعة بسيطة ليتحركوا ضد بلدهم، ومن أسفٍ أن الرجال ذوى الفضل يتصرفون ببطء ويتجاهلون الخطر حتى تندلع الأزمة».
كاتب هذا الكلام رجلٌ يعرف عما يتكلم. ليس مُفكراً نظرياً، أو فيلسوفاً مترفعاً عن معترك الحياة والسياسة. هو رجلٌ خبر السياسة وعاين عالمها. اكتوى بنارها، وفقد حياته بسببها. الكاتب هو «شيشرون»، الفيلسوف ورجل الدولة الرومانى الأشهر المولود فى 106 قبل الميلاد. أهمية «شيشرون» أنه عاش فى فترة عصيبة للغاية شهدت تحول روما من جمهورية إلى نظام إمبراطورى. «شيشرون» جسد بحياته وكتاباته أهم دفاع عن النظام الجمهورى. التُراث الذى خلفه وراءه صار المعين الرئيس الذى نهل منه مؤسسو الجمهورية الأمريكية فى القرن الثامن عشر.
روما بدأت تاريخها ملكية، ثم تحولت إلى الجمهورية فى 509 قبل الميلاد. الجمهورية استمرت ما يقرب من خمسمائة عام، قبل أن يُدمرها يوليوس قيصر، ثم يرثها أغسطس قيصر ويحولها إلى امبراطورية. تجربة الجمهورية هى الأطول فى التاريخ البشرى لمُجتمع استطاع حكم نفسه بنفسه. المعضلة التى صادفت الرومان عندما أطاحوا بآخر ملوكهم تمثلت فى كيفية صياغة نظام ما يحل محل الملك، ولا يعتمد على فرد واحد. النظام الذى صاغه الرومان كان عبقرياً بحق. ليس أدل على ذلك من صموده لفترة ممتدة، ثم تأثيره اللاحق على التجربة الأمريكية وغيرها.
فى كتاب How to run a country أو «كيف تُدير بلداً: دليل قديم للقادة المُعاصرين»- الصادر فى 2013- يُقدم لنا «فيليب فيرمان» خُلاصة فكر «شيشرون» عن الحُكم، وإدارة الدولة. كلماته تكاد تُخاطب عصرنا وتهمس فى أذن رجالاتنا من السياسيين وأهل العمل العام.
«شيشرون» عمل فى الدولة وتقلد أرفع مناصبها (القنصل). هو رجل سياسة وحلول وسط وتسويات، على أن مبادئه الأصلية لا تتغير. ما يتبدل هو سياساته ومواقفه. تأمل تلك النصيحة الغالية لأى رجل دولة: «إن تبنى موقف لا يتغير أو يتبدل فى السياسة يُعد من باب انعدام المسؤولية، ذلك أن الظروف تتغير باستمرار، والشرفاء يغيرون رأيهم. إن التشبث بذات الرأى- بغض النظر عن التكلفة- لا يُعد فضيلة بين رجال الدولة. ما يجب أن يظل ثابتاً هو رؤيتنا وليس كلماتنا».
«شيشرون» محافظٌ معتدل (عملة نادرة هذه الأيام!). هو ليس من أنصار الثورة أو التغيير الجذرى، ببساطة لأن ضررها أكثر من نفعها. مثلاً: هو يُعد من أكبر المُدافعين عن الملكية الفردية بين القدماء. يقول إن الدولة نفسها وُجدت للدفاع عن هذا الحق الأصيل للبشر: أن يحتفظوا بما يملكون. وعليه، فهو يرفض أى صور من مُصادرة الملكية. يكتب: «لهؤلاء السياسيين الذين يدعون أنهم أصدقاء للشعب ويسعون لتمرير قوانين تُعيد توزيع الأملاك وتطرد الناس من بيوتهم وتُسقط الديون عن الغارمين.. لهؤلاء أقول إنكم تقوضون الدعائم الأساسية لدولتنا، وتُدمرون السلم الاجتماعى الذى لا يُمكن أن يسود أبداً عندما تستولى الدولة على أموال الناس لتُعيد توزيعها».
على أن فكرة واحدة من أفكار «شيشرون» تلفت النظر أكثر من أى شىء آخر كتبه. الفكرةُ تتعلق بأساس الحُكم. بالصورة المُثلى لتنظيم السُلطة فى المُجتمع. «شيشرون» يرى أن هناك ثلاثة نظم رئيسة للحُكم: الملكية والأرستقراطية والديمقراطية. الملكية هى حُكم الفرد، مشكلتها أنه ليس هناك ما يضمن ألا تنحدر إلى الطُغيان. «شيشرون» لا يرفض الملكية من حيث المبدأ لو أن هناك ما يضمن لنا صلاح الملوك أجمعين. المعضلة أن ذلك أمرٌ- كما عرفنا بالتجربة- شبه مستحيل.
أما الأرستقراطية، وهى حُكم القلة المميزة، فتنحدر مع الوقت إلى نوع من الأوليجاركية، أى سيطرة قلة قليلة على مقدرات السلطة، وتسخير هذه السلطة لمصلحتها وليس للمصلحة العامة. وكذلك الأمرُ مع الديمقراطية التى تصير حتماً إلى حُكم الغوغاء. يكتب «شيشرون»: «عندما تُسيطر فئةٌ قليلة من الناس على البلد بسبب ثروتها أو مولدها أو أى مزية أخرى، فهى تظل فى النهاية مجرد فصيل، حتى ولو سُميت أرستقراطية. وإذا تولى الجمهور مقاليد الحُكم فهى تُسمى حرية برغم أنها فى حقيقة الأمر فوضى».
كيف يحل «شيشرون» هذه المعضلة؟ ما النظام الأمثل الذى يقترحه؟
هو يُفضل نظاماً هجيناً من هذه الأفكار الثلاث. يُدافع عن منظومة تمزج بين مُشاركة الناس (الديمقراطية)، والاستفادة من المواطنين المميزين (الأرستقراطية)، مع وجود سُلطة تنفيذية قوية (الملكية). هذا النظام اسمه الجمهورية. سر عبقرية «الفكرة الجمهورية» يكمن فى التوازن. الاستقرار ينبع من التوازن بين هذه العناصر الثلاثة، من دون جور أحدها على الأخرى. فى الجمهورية هناك نظامٌ للانتخاب يسمح للجمهور بالمشاركة، ومجلس شيوخ يضم الأرستقراطية، ومنصب للقنصل يتغير كل عام (حتى لا يتحول إلى طاغية). النظام الأمريكى المعاصر مؤسس على هذه الفكرة البسيطة المُلهمة.
مصر تحتاج اليوم إلى فكرة مماثلة. منبع الخلل فى نظامنا السياسى هو الافتقار إلى هذا النوع من التوازن الحميد بين المصالح والطبقات. من العجيب حقاً أننا خبرنا فى السنوات الماضية جميع مساوئ نظم الحُكم التى تحدث عنها «شيشرون». شهدنا حُكم الفرد وما يؤول إليه إن طال أمده. خبرنا الديمقراطية وما تصير إليه لو خرجت عن القواعد. وجربنا حُكم القلة وما يُثيره من مُشكلات.
إنها الجمهورية إذاً! ذلك النظام العظيم الذى رضى «شيشرون» أن يموت دفاعاً عنه. كانت آخر كلماته التى قالها لقاتله الذى أرسله الطاغية الرومانى الجديد (أنطونيو): «على الأقل، احرص على أن تجز رأسى بصورة جيدة»!