كائنات ناقصة

أيمن الجندي الأحد 31-01-2016 21:37

أحيانًا أكتب كمجرد حيلة نفسية لإزاحة الألم. ومقال اليوم ينتمى إلى هذا النوع من الكتابة: القلق النفسى العميق الذى أصابنى بعد مشاهدة فيلم «شروط المحبة» Terms of endearment.

لو كان اختيار عنوان الفيلم مُوكلًا إلىّ لجعلته بلا تردد «كائنات ناقصة». كائنات تعسة، كائنات مسكينة. عن نفسى أتكلم وعن حضراتكم جميعًا. كلنا مساكين.

الأم: سيدة فى منتصف العمر، ذات طبيعة قلقة من النوع الذى تنتابها الشكوك عما إذا كانت وليدتها حية أم ماتت أثناء النوم. ثم هى صعبة المعشر، وحين توفى زوجها فإنها عاشت مثل الراهبة برغم أن تقاليد مجتمعها تسمح بإرواء جنسى خارج مظلة الزواج. وهى دائمة الشجار مع ابنتها التى صارت مراهقة، ووقعت فى حب شاب لم تشعر الأم بالارتياح معه.

الابنة: متهورة، عاطفية، ونهمة جنسيًّا. تتزوج الشاب رغم رفض الأم، وحتى حين أنجبت فإنها لم تنتبه إلى الحشمة فى وجود طفل يلاحظ ويتأثر. الدخل يتأثر بشدة بعد إنجاب الأطفال. وعلاقتها بزوجها بدأت فى التدهور، خصوصا عندما أصابتها الغيرة والإحساس بالمهانة بعد أن صار يلاحق النساء.

الزوج: لقد نالها حتى ملّها. والدنيا واسعة ومليئة بالنساء الأخريات. والبكاء والملاحقة واللوم المستمر لن يغيّر من حقيقة أنها زهدها. ودموعها لم تعُد تستدر منه غير الملل.

الجار: جار الأم الخمسينية أصبح عشيقها. ولأول مرة منذ عهد سحيق تشاطره الفراش. ولأول مرة تعترف بأنها كانت تخفى رغباتها الدفينة خلف قناع التطهر. لكن المشكلة أنه رجل، والرجال يملّون النساء بسرعة، ولن يغير شيئًا من هذه الحقيقة مهما صرخت وشعرت بالظلم والمهانة. المرأة بطبعها تريد علاقة مستمرة تشعرها بالأمان، والرجل يريد أن يجرّب السمراء بعد الشقراء، والممتلئة بعد النحيفة، ولحظات الفراق صعبة ومحرجة ولكنها ضرورية. ولا مفرّ منها على الإطلاق.

الابنة: تكتشف أن لديها ورمًا خبيثًا. أيامها صارت معدودة. وعليها أن تتقبّل حقيقة أنها ميتة حتمًا خلال شهور. وعليها أن ترتِّب من سيتكفّل بتربية أبنائها. تحدث المواجهة الصعبة مع الابن الذى يكرهها، لخبرات مؤلمة تعرض لها، لكنها تتسامى بالقوة المهولة التى وهبها الله للأمهات. فتخبره أنه يحبها بالفعل وإن كان لا يدرك ذلك الآن، وأنه سيندم مستقبلًا على الكلمات الصعبة التى وجهها له، وسيتمنى لو أخبرها أنه يحبها. ثم أخبرته فى حزم الأمهات أنه يجب ألا يندم ولا يتألم لأنها تعلم أنه يحبها، وأن هذه الكلمات القاسية خرجت من وراء قلبه. وإياك أن تحزن، وإياك أن تتألم.

لقد اقشعرّ جسدى وأنا أتابع هذا الحوار المؤثر، أحسست وقتها أن هذه الأم - التى ليست أكثر من امرأة عشرينية- تتحول إلى كائن أسطورى. إذ لم يمنعها الهلع من الموت أن تتسامى من أجل مشاعر ابنها المستقبلية، مع أنها ليست أكثر من عشرينية ساذجة. فسبحان الذى خلق الأمهات بهذه الرحمة.

الأم: صادقة الحزن على ابنتها التى تحتضر، وبرغم ذلك تشكو من جارها الذى هجرها. تخبرها الابنة -وهى تبكى- أنها غير مهتمة إلا بحقيقة أنها تموت.

الزوج: صادق الحزن على زوجته المحتضرة، ولكنه أيضًا سطحى وسريع التقلب وتحكمه غرائزه. مجرد أيام ثم يخضع لنزواته ويعاود ملاحقة النساء.

ينتهى الفيلم بموت الابنة العشرينية، وتظهر المفارقة المؤلمة بين شغف البدايات وعتامة النهايات. ولكن هذه هى الحياة! إذ ما الذى بوسعنا أن نصنعه إذا كنا مجرد كائنات ناقصة؟

aymanguindy@yahoo.com