(1)
في مذكراته الحجرية خصص جدي الكرومانيوني (بلاش «البدائي» عشان بيتقمص) جبلا من 200 صخرة لذكر ما جرى يوم حادثة «حرق العشة»، وقد أخبرني ذات مرة أن الأحداث ظلت حاضرة في رأسه آلاف السنين، كان يفكر فيها نهارا، ويعيشها في الليل كوابيسا مخيفة، ولما بدأ يحكيها (الحادثة والكوابيس) لجدتي لوسي، كان يشعر بالراحة ويتخفف من الذكريات المؤلمة، ومن هنا لمعت في ذهنه فكرة الكتابة ليخرج كل الضغوط من داخله ويضعها على صدر الجبل.
يومها ناقشت جدي في نوعية الكوابيس التي تنتابه وكيف كان يراها، فأجابني محتداً: «كوابيس.. ماتعرفش الكوابيس؟.. زي الحياة اللي انتو عايشين فيها دي.. قاضي يجاهر برغبته السادية في إعدام 400 ألف، وأمين شرطة يضرب طبيب، وحاميها حراميها، ونائب الشعب الحجري يعين نفسه وزيراً لقلة الأدب، وعيال بتتحرش بجدتك لوسي، وواحد ماسك سيف وماشي يقول: مايصحش كده..!
(2)
* طيب خلاص يا جدي، خلينا في موضوعنا: كتبت إيه في مذكراتك؟
- هتلاقيها على «يوطوب»
* قصدك «يوتيوب»؟
- «يوتيوب» دي قناتكم أنتم، في زماننا كنا بنتعامل مع الطوب، وعموما سأحكي لك القصة بنفسي: في ذلك اليوم كنت وحيداً، بعد أن خرجت لوسي لاختيار فستان الفرح من أوراق شجرة حمراء في غابة بعيدة وغابت 40 سنة، تفرغت خلالها لتطوير سن الحربة الحجرية حتى أصبح مدبباً، وفي أول تجربة للسلاح الجديد اصطادت الرمية غزالاً، سحبته إلى «العشة» التي أقمتها من فروع الأشجار المغطاة بالطين، كبيت زوجية للجدة لوسي، لأنها تنقبض من الكهوف، ولديها «فوبيا» من الأماكن المظلمة، ولما ثار البركان واندلعت النيران، كنت أمام «العشة» فلم افكر في أي شئ إلا النجاه فهربت بعيدا عن الخطر تاركاً الغزال ومهر لوسي، ومع الوقت كنت أستعيد منظر العشة المحترقة وأسال نفسي: ماذا لو كنت بداخلها ولم أتمكن من رؤية ما يحدث بالخارج؟، ثم أتذكر تفحم الغزال وأقول لنفسي مفزوعاً: لا.. لن يحدث لي ذلك. ولما عادت لوسي جلسنا خارج «العشة» نفكر ونفكر، وبعد فترة وجيزة (تقريبا 120 سنة) خطرت لنا فكرة عمل فتحة في «العشة» نستطيع أن نرى من خلالها ما يحدث في الخارج، وبالمرة تسمح بمزيد من الضوء حتى لا تنقبض لوسي من الظلام والأماكن المغلقة، وقضينا مئات السنين نحاول عمل الفتحة من دون أن تنهدم العشة، أو يتفتت كساء الطين فتتسلل إلى الداخل الثعابين والعقارب، وبعد جهد ومحاولات واختراعات كثيرة نجحنا في اختراع أول نافذة، وكان ذلك بعد 18 ألف سنة من اختراع الإشعال الذاتي، فقبل حادث «العشة» لم نكن نتحكم في النار، وكانت مصدر شر وخطر، لكن رائحة الشواء جعلتنا نفكر في طريقة نحصل بها على النار وقتما نريد، وقد كان.
(3)
تأملت حديث جدي وشعرت بالخجل، فنحن أقل الأجيال تعباً وكفاحاً على هذه الأرض، وأكثرها أنانية وغطرسة وجهلا، فنحن نستهلك برعونة مخيفة ما أنتجه بشر مكافحون نسميهم بكل غرور «البدائيين».. لقد كان جدي يعرف أنه لا يصنع مجرد ثقب عشوائي في جدار مصمت، لكنه كان يصنع «الأمان».. أمنه وأمن رفيقته في الحياة، ولا شك أنه أدرك بعد ذلك أن النافذة «إطار فني» مصنوع بمهارة خفية، تتحدد قيمته بحسابات كثيرة تخصه وتخص ما يطل عليه، تخص الشمس والهواء، الزهور والصحراء، الطير والماء، الانتظار واللقاء، الحب وأحوال السماء.
(4)
هكذا علمني جدي أن النافذة الجيدة هي التي تطل على ما نريد ومن نريد، النافذة الجيدة «وطن»، أما «المنافي» فهي «المساء إذا تدلى من نوافذ لا تطل على أحد» حسب التعريف الشعري لمحمود درويش، وهو تعريف بديع لكنه ينقلنا إلى الجانب المعتم من القمر، إلى التأثيرات السلبية للنوافذ، خاصة تلك التي تستخدم في التلصص وأقدمها حيلة ذلك المخبر المتربص بجدي والذي صنع ثقبين قبيحين في الجورنال لمراقبة جدي، وجلس بمحاذاته على الضفة الأخرى من الزمن والقيم يطور ثقبي التلصص حتى اخترع برنامج «بريزم»، واخترع البرنامج التطفلي الذي اشترته مصر من بريطانيا بعد 30 يونيو لاعتراض رسائل المحمول والبريد الاليكتروني، وهناك أيضا التمييز الطبقي الذي أشعله موقظي الفتن بين نافذة ترى النيل، ونافذة تصطدم بحائط، وهناك أيضا بيل جيتس امبراطور النوافذ، حاكم مملكة ويندوز الخرافية التي شطرت تاريخ إلعالم إلى نصفين (ق.و) و(ب.و) أي العالم (قبل ويندوز) والعالم (بعد ويندوز)
وغداً نواصل...
....................................................
(طلة)
كأنك أصبحت كل شئ أيتها النافذة
أصبحت صلاتنا وطقوسنا
بحيث لايمكن للكائن الواقف داخل إطارك
إلا أن يكون منتظراً
أو متأملاً.
(ريلكا – من قصيدة النوافذ)