العربى الجديد

سعد الدين ابراهيم الجمعة 29-01-2016 21:39

وصلنى مؤخراً (يناير 2016) من أحد تلاميذى السابقين كتاب بالإنجليزية ذو عنوان مُثير، وهو «العربى الجديد The New Arab».

التلميذ السابق هو جوان كول Juan Cole، درس معى فى جامعة كاليفورنيا، بمدينة لوس أنجلوس (UCLA)، حيث كنت أستاذاً زائراً بتلك الجامعة، فى ثمانينيات القرن الماضى. وذكرياتى عنه أنه كان مُشاغباً، ولكنه حاد الذكاء، ومُجتهد للغاية، حيث كان يحصل على تقدير «ممتاز».

واستمر جوان كول فى دراساته العُليا، إلى أن حصل على الدكتوراه، ودعته إحدى الجامعات الأخرى العريقة فى وسط أمريكا، وهى جامعة ميتشيجان، ليشغل كرسى ريتشارد ميتشيل للتاريخ الحديث، وكان لجوان كول كتاب سابق ذاع صيته فى تسعينيات القرن الماضى، بعنوان التفاعل مع العالم الإسلامى (Engaging the Muslim World).

وفى مؤلفاته سواء عن العالم العربى أو العالم الإسلامى، يواصل جوان كول مسيرة الأستاذ الذى يشغل كرسيه، وهو ريتشارد ميتشيل، الأمريكى ذو الأصول اللبنانية، الذى كان أول من كتب بموضوعية وحصافة عن الإخوان المسلمين، باللغة الإنجليزية، فى سبعينيات القرن الماضى، وظل كتابه عن جماعة الإخوان المسلمين The Society of the Muslim Brothers هو المرجع الأساسى، لما يقرب من رُبع قرن.

وها هو أحد التلاميذ الأوفياء يواصل مسيرة أساتذته فى الكتابة الموضوعية الرصينة عن العرب والمسلمين. ومن طرائف الأمور التى تثلج قلب كل أب وكل أستاذ، هو أن يتفوق الابن على أبيه، وأن يتفوق التلميذ على أستاذه علماً وشهرة.

ويُعتبر جوان كول ثانى أشهر تلاميذى، الذى يُحقق ذلك فى حياتى. أما التلميذ الآخر الذى فعل ذلك عن جدارة، فهو الدكتور خالد فهمى، الأستاذ بجامعتى نيويورك والأمريكية بالقاهرة، والذى كان أول كتبه المنشورة بالإنجليزية بعنوان «كل رجال الباشا» (All the Pasha Men) والباشا المقصود، هو محمد على الكبير، صاحب الفضل الأكبر فى إرساء قواعد الدولة الحديثة فى مصر المحروسة (1805-1845).

والطريف فى إنجاز هذين التلميذين السابقين، أنهما لم يتخصصا فيما كنت أنا مُتخصصاً فيه، وهو علم الاجتماع السياسى، واختارا بدلاً من ذلك أن يتخصصا فى التاريخ الحديث، لمصر والعالمين العربى والإسلامى، فنعم القرار: لأنهما تعاملا مع التاريخ كعلم اجتماعى، بالمعنى الواسع للكلمة.

وفى كتابه «العربى الجديد»، يرسم جوان كول ملامح هذا الإنسان الجديد فى العالم العربى كنتاج لتاريخ طويل من قهر الحكام واستبدادهم من ناحية، وكنتاج لتكنولوجيا الاتصالات الحديثة من ناحية أخرى.

وكما أن المقاهى البلدية ومجالس الحشيش (الغُرزة) كانت ولا تزال مُتنفساً للإنسان العربى التقليدى إلى نهاية القرن العشرين، فإن الشبكة الدولية العنقودية (الإنترنت) والفضاء التصورى (Cyber Space) قد أتاحا للشباب العربى فى العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادى والعشرين فضاءً للحُرية لم يكن مُتاحاً للأجيال الثلاثة التى سبقت الجيل الحالى، أى الذى ولد فى سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين.

إن الشباب فى كل الأحوال وفى كل المجتمعات هو شريحة عُمرية اجتماعية قلقة، وبها نزعة للمُساءلة والمُغامرة. وفى الحالة العربية، فإن تلك الشريحة العُمرية ولدت وشبّت فى عهود نفس الرؤساء على قمة السُلطة فى مجتمعاتهم ودولهم القُطرية ـ من صدام حسين الذى تربع على قمة العِراق أكثر من عشرين عاماً، ومُعمر القذافى الذى استبد بليبيا لأربعين عاماً، وبينهما كل من زين العابدين بن على فى تونس، وحُسنى مبارك فى مصر، وحافظ الأسد فى سوريا، وعلى عبدالله صالح فى اليمن، ليستبد كل منهم بالسُلطة ما بين عشرين وثلاثين عاماً. أى أن جيلاً عربياً كاملاً، وهو الجيل الذى وُلدَ فى عقد السبعينيات، نما وترعرع، وشبّ عن الطوق، وهو لا يعرف إلا رئيساً واحداً.

هذا فى الوقت الذى أتيح لمُعظم أبناء ذلك الجيل، قسط من العلم، مهما كانت رداءته، إلا أنه فتح أعين أفراده على أن هناك عوالم أخرى، فى أوروبا والأمريكتين، بل فى أستراليا، وبُلدان شرق آسيا. أى أن الإطار المرجعى لشباب الجيل العربى فى العقدين الأولين للقرن الحادى والعشرين كان ولا يزال يتسع، فى الوقت الذى كانت فيه هوامش الحُرية وفُرص العمل والحياة كانت تضيق وتنكمش.

وربما كانت حالة الشاب التونسى محمد بوعزيزى، الذى أشعل النار فى نفسه ضيقاً بالحياة وغضباً لكرامته التى امتهنها أحد أفراد الأمن التونسى، وهو الشاب الجامعى العاطل عن العمل، هى تجسيد درامى لحالة جيل عربى بأكمله من الخليج العربى إلى المُحيط الأطلنطى: أى التطلع إلى حياة أفضل فى ظل مناخ سياسى أسوأ.

كان إحراق محمد بوعزيزى لنفسه شرارة استغاثة واستنهاض لأبناء جيله على امتداد الوطن العربى. وقد لبّى أبناء ذلك الجيل بالفعل صيحة بوعزيزى. فانفجرت براكين الغضب المكبوت فى ليبيا ومصر، والبحرين، واليمن، وسوريا، والسودان، والصومال، ونجحت فى إسقاط أربعة أنظمة خلال نفس العام الذى أشعل فيه بوعزيزى النار فى نفسه. ويبدو أن الساحة العربية كانت مُهيأة للاشتعال. وقد تراكم هذا التهيؤ للاشتعال، ربما منذ غزو أمريكا للعِراق، والذى كانت عدة آلاف فى هذه العاصمة أو تلك تخرج للاحتجاج عليه، إلى أن تحولت الاحتجاجات المئوية (أى بالمئات)، إلى احتجاجات ألفية (أى بالآلاف)، ثم إلى احتجاجات مليونية.

والنظرة المُتعمقة إلى شعوب الأمة العربية فى العقدين الأخيرين، تفيد بأن مُتغيرات ثلاثة قد استجدت على المشهد العربى، أولها، وأهمها، هو كسر جِدار الخوف الذى كانت الأنظمة الاستبدادية العربية قد شيّدته لتُخيف به مواطنيها.

ثانيها، هو الاستعداد المُتزايد للنزول إلى الشوارع والميادين العربية، للتظاهر، والتعبير عن الغضب، وبلورة المطالب الشعبية فى كلمات وشعارات جديدة، ولكنها موجزة، وذات مفعول تعبوى هائل ـ من قبيل: «إن الشعب يريد الخُبز والحُرية والكرامة، والعدالة الاجتماعية».. وحينما تلكأت الأنظمة فى الاستجابة لتلك المطالب الأساسية والمشروعة، أضافت الجماهير الغاضبة، والتى فرغ صبرها، شعاراً إضافياً وهو: «أن الشعب يُريد إسقاط النظام الحاكم».

وثالثها، المُشاركة المُتزايدة للمرأة العربية، فى حركات الاحتجاج الثورية، وهو الأمر الذى يُعتبر ثورة إضافية فى حد ذاتها، وهو ما أدهش كثيرين داخل الوطن العربى وخارجه، فإذا كان الباحث الأمريكى جوان كول يتحدث فى آخر كُتبه عن العربى الجديد، وآخرون يتحدثون عن الربيع العربى، فإننا نضم صوتنا إلى أصواتهم، والتى تتزامن مع الذكرى الخامسة لتلك الثورات.

وعلى الله قصد السبيل.

semibrahim@gmail.com