١٠٠ عام... عبر الزمن

سيلڤيا النقادى الجمعة 29-01-2016 21:30

«ربما يأتى اليوم الذى أستطيع فيه أن أتحد مع نفسى»

تذكرت هذه العبارة للموسيقار سباستيان باخ عندما بدأ الغناء يدوى فى القاعة من الحضور مع الأغنية الشهيرة للمغنية البريطانية مارى هوبكين «هكذا كانت الأيام»... هكذا دمعت العيون وهكذا تناقلت النظرات وهى تتبادل ذكريات ربما عاد بعضها لأكثر من نصف قرن مضى.. هكذا تلامست الأيادى واتحدت وهى تمسك ببعضها مرة أخرى وبعد غياب طويل على أنغام هذا الصوت الدافئ الذى أعاد الذكريات لهذا التجمع الكبير الذى أقيم بمناسبة لقاء واحتفال الخريجين «للمدرسة الإنجليزية بالقاهرة» بمرور مائة عام على إنشائها، حيث تأسست فى عام ١٩١٦ وشرفت أن أكون من خريجيها.

لم يكن ذلك هو أول لقاء يقام للخريجين ولكنه يصبح للكثير منهم- الذين لم يحضروا هذه المناسبة من قبل- هو أول جمع شمل لأصدقاء الطفولة والمدرسة، وهى لحظة لقاء يصعب حتى على القلم بوصفها...

وبعيداً عن كل المعانى الدافئة، وكل المشاعر المريحة وكل الساعات السعيدة التى تجلبها هذه اللقاءات الصادقة الخالية من الادعاء والزيف.. الشافية للروح والعقل تبقى هذه الساعات النوستالجية مرآة تعكس رحلتنا فى الحياة ملخصة فى وقت محدود وقصير رحلة كل واحد منا.. أحلامنا الصغيرة وآمالنا الكبيرة... كلها تجرى أمام أعيننا فى شريط متلاحق تقتحمه أحداث الحياة وألعاب القدر ومشيئة الخالق!!.. ثوابت لم تدركها براءة عقولنا وعفوية شبابنا ونحن نجلس تحت أشجار التوت بفناء المدرسة نرسم ونخطط لمستقبلنا.. نبنى قصوراً على الرمال.. نؤمن بتشييدها.. ونبعث برسائل للسماء ننتظر إجابتها.. ونعيش أحلام يقظة تشحننا بتحقيقها.. هكذا كانت تدور الأيام.. «لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس».

مع هذه اللحظات من الاسترجاع وقفت أتأمل من بعيد كل واحد منهم.. صحيح أن فوارق السنين الدراسية كانت مختلفة ومتباعدة أحياناً، لكن هذا لم يمنع من هذا الشعور الذى ذكرنى ويشبه الـ«D.N.A» هذا الحامض النووى الذى جعلنى أشعر بأن بيننا خلايا مشتركة تربطنا ببعضنا البعض.. خلايا تكونت وتشكلت من خلال نظم تعليم وتربية واحدة.. من لغة وثقافة مشتركة وإن تباعدت الأعمار.. من انتماء واحد وإن اختلفت أحيانا الأجناس.. من صف واحد وإن تشاجرت المفاهيم والآراء.. فهكذا كانت ترسم مدارسنا العريقة أسلوبا موحداً لتعليم وتربية أبنائها.. نهج تربوى واضح لا يغيره أو يلعب فى أساسه أفراد أو إدارات جديدة تعاقبت عبر أجيال وعقود!! كيف رسخت هذه المدارس هذه المفاهيم فى عقولنا؟ كيف استطاع أن يتميز أبناؤها فى مجالات العلم والثقافة والرياضة عن كثير من أبناء مدارس أخرى؟ كيف نرى من خريجيها من أصبحوا وزراء للخارجية والسياحة والصحة.. من أصبحوا رؤساء لأشهر وأقوى الشركات والبنوك المصرية والعالمية.. من رفعوا اسم مصر عالياً فى منظمات دولية كالأمم المتحدة وغيرها من منظمات.. من أصبحوا من أشهر الأطباء والجراحين المصريين والعالميين.. من أصبحوا كتاباً ومن تولوا مناصب عليا فى مجال الإعلام والصحافة وغير ذلك عن مجالات لا تعد ولا تحصى.. كيف غرست هذه المدارس الشعور بالالتزام والجدية والضمير الصاحِى الحى، فى أوقات وأزمنة كان ينظر فيها لأبنائها بأنهم مدللون من طبقات لا تنتمى إلى القاعدة الشعبية..!! ومع ذلك أتبتت الأيام أن هذا الجوهر الثرى كان خلفه فكر تنويرى صارم بنوده واحدة لا تحكمه المادة ولا المحسوبية أو الاتجاهات الفكرية أو العقائدية!!

إن هذا اللقاء والتجمع العاطفى الذى جمع هذه الأبناء، رغم اختلاف أعمارهم وسمح لهم بالرقص والغناء والتصفيق، لم يكن فقط لقاء من أجل نوستالجيا الزمن الجميل، بل كان أيضا وقفة احتياج.. وقفة اتحاد لأقلية أصبحت تصارع للبقاء والحفاظ على معايير الجودة التى نشأت عليها... ربما هى لا تبكى هذا الزمن.. ربما لا تتحسر عليه بقدر ما ترغب أن يشق فكرها هذا المجرى الراكد الذى يعكر انسيابه هذا الانفلات الغوغائى وهذا التفسخ المجتمعى والتربوى والتعليمى!!

فتحيةٌ لكم أصدقاء.. زملاء.. أحباء.. رفاق رحلة طويلة عبر الزمن.. رحل فيها من تركنا ورحل عنا.. ويبعد عنا من بعدته الأيام والأحوال... ويبقى منا من يتدفأ بحسنا... ويتواصل معنا من يتعطش لريحنا... ولكن نبقى جميعا نحمل شعارا واحدا «معا إلى الأبد»... علامة تحفرها الذكريات والحب.. والحنين.. وإلى أن نلتقى.

selnakkady@gmail.com