تجدد الخلاف بين الحكومة الحالية والجماعة الصحفية والإعلامية بشأن تشريعات الصحافة والإعلام المكملة للدستور، فى الأسبوع الماضى، بعد التصريحات التى أدلى بها المستشار أحمد الزند، وزير العدل، وكشف فيها عن أن الحكومة سوف تتقدم إلى مجلس النواب، خلال الأسابيع القادمة، بثلاثة قوانين - تطبيقاً للمواد 111 و112 و113 من الدستور، يختص الأول بالمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام الذى ينيط به الدستور تنظيم شؤون الإعلام المرئى والمسموع والمقروء والرقمى، سواء كان عاماً مملوكاً للدولة أو خاصاً مملوكاً للأفراد والشركات، يليه - بفارق أسبوع بين كل قانون والآخر - قانونا الهيئة الوطنية للصحافة، التى تقوم على إدارة المؤسسات الصحفية المملوكة للدولة، والهيئة الوطنية للإعلام التى تقوم على إدارة المؤسسات الإعلامية المملوكة لها.
وتبريراً لذلك استندت الحكومة إلى أن المادة 111 من الدستور تنص على أن يؤخذ رأى المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام فى مشروعات القوانين واللوائح المنظمة لمجال عمله، وهو ما يفرض أن يشكل هذا المجلس أولاً ليؤخذ رأيه فى بقية مشروعات القوانين الخاصة بهذا المجال.
ولم يكن لهذه التصريحات سوى ثلاثة معانٍ مفزعة:
■ الأول: أن الحكومة الحالية قررت أن تلغى الاتفاق الذى جرى بين الحكومة السابقة والجماعة الصحفية والإعلامية، على أن تتولى اللجنة الوطنية للتشريعات الصحفية والإعلامية اقتراح مشروعات القوانين المكملة للدستور بشأن الصحافة والإعلام، وهو اتفاق وافق عليه رئيس الجمهورية، وأنها قررت أن تلقى إلى صندوق القمامة بمشروعى القانونين اللذين أعدتهما اللجنة - وهما مشروع القانون الموحد لتنظيم الصحافة والإعلام، ومشروع قانون إلغاء العقوبات السالبة للحريات فى جرائم النشر - خلال عام من العمل الشاق والمتواصل، شارك فى إنجازه خمسون من الكفاءات الوطنية، يمثلون المجلس الأعلى للصحافة، ونقابة الصحفيين، ونقابة الإعلاميين «تحت التأسيس»، ونقابة العاملين فى الصحافة والإعلام، واتحاد الإذاعة والتليفزيون، وممثلون للصحافة الخاصة والإعلام الخاص، وشباب الصحفيين والإعلاميين، وأساتذة فى الإعلام والقانون، وخبراء فى أداء المؤسسات الصحفية والإعلامية.
وهما مشروعان قُدما إلى الحكومة السابقة منذ خمسة أشهر، وجرى الحوار حولهما بين وفد من اللجنة ووزير التخطيط والمتابعة - فى الحكومتين السابقة والحالية - د. أشرف العربى، وفريق من معاونيه، بينهم مستشارون من مجلس الدولة، انتهى بإقرارهما بعد التوافق على تعديلات طفيفة فيهما، وكان مقرراً أن يناقشهما مجلس الوزراء لولا استقالة الحكومة السابقة بشكل مفاجئ.
■ أما الأمر المفزع الثانى فهو أن الحكومة الحالية قررت أن تلقى إلى صندوق القمامة نفسه بنصف عدد مواد الدستور التى تتعلق مباشرة بتحرير الصحافة والإعلام، حين تقصر تقنينها على المواد التى تتعلق بتشكيل المجالس التى تنظم المهنة، وتتجاهل جوهر ما قصد إليه المشرع الدستورى بهذه المواد 70 و71 و72 التى تضمن تحرير الصحافة والإعلام، وهى مواد يعود الفضل فى اقتراح نصوصها إلى ممثلين للهيئات نفسها التى وضعت مشروع القانون الموحد لتنظيم الصحافة والإعلام، ومشروع قانون إلغاء العقوبات السالبة للحرية فى جرائم النشر، لتكون أول مواد من نوعها فى الدساتير المصرية تطلق حرية إصدار الصحف ووسائل الإعلام المرئى والمسموع أمام الأفراد والشخصيات الاعتبارية العامة والخاصة، وتضمن حق إصدار الصحف بالإخطار، وتحظر فرض الرقابة على وسائل الإعلام أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها، كما تحظر توقيع عقوبات سالبة للحرية فى جرائم النشر، وتكفل استقلال المؤسسات الصحفية ووسائل الإعلام المملوكة للدولة، بما يكفل حيادها وتعبيرها عن كل الآراء والاتجاهات السياسية.
ما يدعو للعجب أن الحكومة فكرت فى إصدار قانون خاص بتشكيل المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام بدعوى أنه المنوط به إبداء الرأى فى تشريعات القوانين المتعلقة بعمله، مع أن المادة نفسها تنيط به مهمة أن يضمن حماية حرية الصحافة والإعلام المقررة بالدستور، فماذا سوف يفعل المجلس بين تشكيله وبين إبداء رأيه فى القانون الذى ينظم ممارسة هذه الحريات، ولماذا ترفض الحكومة القانون الموحد؟، فى حين أنه قد أفرد باباً خاصاً يضم فصلاً لكل من المجلس الأعلى والهيئتين الوطنيتين، يحدد تشكيله واختصاصاته، وينظم ممارسة الحريات الصحفية والإعلامية التى وردت فى الدستور.
■ أما الأمر المفزع الثالث فهو أن يكون وراء هذه الرغبة غير المفهومة فى إصدار التشريعات الصحفية بالتقسيط غير المريح، وبناء قمة الهرم وإلغاء قاعدته، والإصرار على إلقاء المشروعات التى أعدتها اللجنة الوطنية فى سلة المهملات، من دون احترام للجهد الذى بُذل فى إعدادها، ولا للهيئات التى شاركت فى صنعها - أوهام لدى البعض بأن هناك إمكانية لإلغاء المواد 70 و71 و72 من الدستور التى تضمن الحريات الصحفية والإعلامية، لضبط ما يصفه البعض بأنه انفلات إعلامى، وهو ما يدعونا لتذكير هؤلاء بأن المادة 226 من الدستور تنص على عدم جواز تعديل النصوص المتعلقة بمبادئ الحرية والمساواة ما لم يكن التعديل متعلقاً بمزيد من الضمانات، وإلى تنبيههم، بأنهم بما يفعلون يعطون الذريعة لأعداء هذا النظام والمتآمرين عليه لتأكيد ادعاءاتهم الكاذبة بأنه يسعى لتقليص الحريات العامة!.
كل ما أرجوه أن يكون الأمر مجرد ارتباك ترتب على انتقال الملف بشكل مفاجئ من حكومة المهندس إبراهيم محلب إلى وزارة المهندس شريف إسماعيل، ومن الوزير أشرف العربى ومعاونيه إلى الوزير أحمد الزند ومعاونيه، ومن لجنة الإصلاح التشريعى، التى تجمد نشاطها، إلى قسم التشريع بوزارة العدل، فاختلطت أوراقه وتداخل ما أعدته لجنة التسعة، التى شكلها «محلب»، لتكون لجنة استشارية له، بما أعدته اللجنة الوطنية للتشريعات الإعلامية، التى اتفق معها على أنها الجهة المنوط بها اقتراح التشريعات.
أما وقد أبدت اللجنة الوطنية - فى الاجتماع الذى عقد أمس الأول، وضم فضلاً عن أعضائها كل الفرقاء المعنيين بالأمر، وحضره المستشار هيثم البقلى، رئيس قسم التشريع بوزارة العدل، ممثلاً للوزير - استعدادها لكى تتحاور - من جديد - مع الحكومة على أرضية المشروع الذى أعدته اللجنة، حول ما قد يكون لدى الحكومة الجديدة من ملاحظات عليه، فتلك هى البداية الصحيحة لتقريب وجهات النظر بين الطرفين، بدلاً من سياسة إلقاء حرية الصحافة والإعلام فى سلة المهملات!