(1)
حرقنا العشة»، وكان جدي قد تجاوز مرحلة «النياندرتال» وخطر الانقراض منذ 50 ألف سنة، وقال لي بسعادة: بدائي إيه يا جيم؟.. أنا الآن من النوع الكرومانيوني المعتبر القادر على صنع أدوات الصيد والبناء، كان جدي يرتدي فراءً أبيض في أبيض، وابتسامته تزيد وجهه إشراقاً، ويشعر أنه مثل زوزو في فيلم حسن الإمام وسعاد حسني «أخذ الليسانس ووصل لبر الأمان»، وبشرني أنه لم يعد يسكن الكهوف منذ 90 ألف سنة: «بصراحة يا حفيدي العزيز منطقة الكهوف خلاص راحت عليها، بقت زحمة جدا، لمت قوقازي على بونوبو وقردة عليا.. بقت بيئة طحن، والسكن فيها مش صحي... أنا وجدتك (لوسي) نعيش الآن حياة تانية خالص كلها رفاهية، تاتش وود يا جيمي نحن الآن بكل فخر لدينا نافذة»..
(2)
رن جرس المنبه، فاستيقظت من النوم مندهشاً، نظرت في شاشة المنبه كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة صباحا، وقفت خلف زجاج النافذة كانت الشمس قد سطعت بعد أيام من التكاسل وأضفت لمسة من الدفء اللذيذ على الطقس البارد، أمسكت بالريموت وفتحت التليفزيون لمتابعة آخر الأخبار، وأنا أتناول فطوري استعدادا لكتابة هذا المقال، لكنني عندما فتحت الكمبيوتر ظلت الشاشة سوداء، برغم أنني سمعت موسيقى «الويندوز» تصدح.
ويندوز؟!...
إيه حكاية «الويندوز» معايا النهاردة؟... جدي يفتخر باختراع «ويندو»، نافذة المنبه تخبرني بالوقت، ونافذة الغرفة تمنحني لذة الدفء والرؤية، ونافذة البريموت تساعدني على اختيار ما أريد رؤيته من خلال شاشة التليفزيون كنافذة على العالم، ثم شاشة الميكروويف تؤمن لي إعداد إفطاري،... وإذا لم تفتح شاشة الكمبيوتر فإنها تحرمني من كتابة المقال برغم أن كل شيء سليم في الجهاز (هارد وسوفت)!.. مددت يدي وضغطت على وصلة الكهرباء أسفل الشاشة، فأضاءت وأضاءت معها ابتسامة على وجهي، لم تكن أقل بهجة من ابتسامة جدي وهو يبلغني بفخر عن دخوله عصر النوافذ.. عصر الويندوز.
(3)
كان ذلك نهار الثلاثاء الماضي 26 يناير، وكنت بالمصادفة قد جمعت مادة للكتابة عن التلفزيون بمناسبة مرور 90 عاما على الإعلان الرسمي لهذا الاختراع السحري، لكن شيئا غامضا كان يفرض نفسه على ويغير خططي بنعومة واقتناع.. رؤيا جدي، ومتوالية إعلان «النوافذ» عن نفسها في هذا اليوم بالتحديد، كأنها سلسلة من المفاجآت التي يدبرها أصدقاء الرمح في حفل عيد ميلاد شبابي، هذا الحضور اللطيف للنوافذ بأشكالها ومعانيها المتعددة في حياتي، غمرني بالحنين للاستماع إلى أغنية «شبابيك» لمحمد منير، ولما فتحت المتصفح للبحث عن الأغنية فوجئت بإله الذاكرة العنكبوتية «جوجل» يحتفل أيضا بالتليفزيون.!
يبدو فعلا أن «الدنيا كلها شبابيك» كما كتب مجدي نجيب، خاصة أن الأغنية نقلتني من الشبابيك الخارجية، من نوافذ الحجر والخشب والمعادن المختلفة إلى «نوافذ الروح»... (دي عينيك شبابيك).. أي والله عينيا شبابيك، فلنفرض أن شاشة الكمبيوتر فتحت مباشرة دون أي عطل بينما كانت عيناي مغلقتين، من المؤكد طبعا أنني لن أُطل على شيء ما، الحياة إذن شباك مفتوح على شباك، نافذة تطل على نافذة، والقصة لا تقتصر فقط على شباك بنت الجيران، لكنها قصة التواصل بيننا وبين العالم كله، فافتحوا شباككم على شباكي، وغداً في نفس الموعد نواصل الدردشة من النوافذ، وعن النوافذ.
(طلة من نافذة ما)
لنفترض حياةً أُخرى
خارج الجسد
وأبعد من الروح
ولنفترض
أنها نافذةٌ ما
(سوزان عليوان)
tamahi@hotmail.com