الديمقراطية بالتدريج

عماد جاد الخميس 28-01-2016 21:35

بمناسبة الذكرى الخامسة لثورة الخامس والعشرين من يناير، ألقى الرئيس عبدالفتاح السيسى كلمة أحسب أنها كانت شاملة وموفقة للغاية، فقد تحدث عن قيمة ثورة الخامس والعشرين من يناير ودماء الشباب التى جدَّدت شرايين البلاد، وأن البلاد تحولت من وطن لجماعة إلى وطن للجميع، ومن بين ما شدد عليه الرئيس فى كلمته أن الديمقراطية عملية تطورية تدرُّجية لا تتحقق بين ليلة وضحاها، وهى أكبر من إجراء انتخابات، وهو أمر لابد أن يعيه الشعب المصرى جيدا، ويتابع عملية التطور الديمقراطى الجارية فى مصر اليوم، والتى تنهض على الفصل بين السلطات والتوازن بينها أيضا، فوظيفة السلطة التشريعية هى التشريع، أى إصدار القوانين، ومراقبة السلطة التنفيذية «الرئيس والحكومة»، وهى وظيفة كانت غائبة فى بلادنا على مدار العقود السبعة الماضية، وعلى الجميع أن يتابع ذلك ويدعمه حتى تتحقق الديمقراطية فى بلادنا.

والديمقراطية قيمة فى ذاتها، تتواجد بتواجد قيم إنسانية أخرى كالعدل والحرية والمساواة، وتعبر عن نفسها فى مؤسسات تمارس السلطة نيابة عن شعب، لها صلاحيات مستقلة ومتوازنة وتراقب بعضها البعض، الديمقراطية تتواجد عندما تكون المؤسسات أقوى وأكبر من الأفراد، عندما يخضع الجميع لحكم القانون، حكاما قبل المحكومين. والديمقراطية بهذا المعنى ثقافة تنتشر فى المجتمع، فلا تكون قيمة من القيم الإنسانية محل تساؤل أو شك، ولا يتواجد فى ثقافة المجتمع ما يتناقض مع قيمة الديمقراطية ولا القيم الإنسانية المرتبطة بها. ومن هنا يصعب الحديث عن بناء نظام ديمقراطى فى مجتمع لديه من الموروث الثقافى ما يتناقض مع القيم الإنسانية مثل الحرية والمساواة والمواطنة والعدل، وأيضا الفصل بين المجالين الدينى والسياسى.

وإذا نظرنا لحالنا فى مصر نجد أنه كان لدينا فى الحقبة شبه الليبرالية من 1923 حتى 1952، نظام برلمانى، وعلى رأس السلطة التنفيذية مَلِك، جرت محاولات لتقييد صلاحياته من خلال الدستور، كنا فى مصر فى تلك الفترة أكثر تقدما وديمقراطية من دول فى جنوب ووسط أوروبا، وانتشرت مكونات عدة من القيم الإنسانية الأساسية كالحرية والمساواة، ووضعت بذور نظام ديمقراطى سمح بتداول السلطة وتقييد صلاحيات الملك، وقد انتهت هذه التجربة بخروج الجيش للاستيلاء على السلطة فى يوليو 1952.

عمل النظام الجديد على إنهاء التجربة الديمقراطية شبه الليبرالية، وقلص من قيمة الحرية لحساب قيمة العدل والمساواة من خلال مبدأ العدالة الاجتماعية، وبدأت تجربة نظام الحزب الواحد، الأمر الذى وضع أساس نظام سلطوى، وجاءت الحروب العربية الإسرائيلية ومقتضيات مواجهة إسرائيل على حساب قيم الحرية والديمقراطية، فقد ظهرت مقولة «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، التى استُخدمت لتقييد مطالب الحرية والديمقراطية.

لم يتغير الأمر كثيرا فى عهد السادات ومبارك، فقط حاول كل منهما استيعاب مطالب التغيير والديمقراطية بإجراءات شكلية، أى بناء مؤسسات دون أن تصاحبها القيم المطلوبة ولا نشر ثقافة الديمقراطية، بل بالعكس جرى تشويه القيم الإنسانية بالكامل، واستُخدم «الدين» فى مواجهة مَن يطالب بنشر هذه القيم أو ثقافة الديمقراطية، فقد خرج علينا رجال الدين ليحدثونا عن ولى الأمر، عن الرابطة الدينية، التى تعنى تقديم الدينى على الوطنى، ومن ثَمَّ فلا مجال للحديث عن ديمقراطية ولا مساواة، وأيضا لا مجال للحديث عن حرية إلا فى الحدود التى يسمح بها ولى الأمر.

وجاءت هجرة قطاعات من المصريين إلى بلدان النفط، وتحديدا المملكة العربية السعودية، لتدمر مكونات المنظومة الثقافية المصرية القائمة على التنوع والتعدد وقبول الاختلاف والتسامح والتعايش، لحساب ثقافة صحراية منغلقة أحادية، وجاء توظيف العامل الدينى فى تدعيم شرعية الحاكم، ليقضى على ما تبقى لدى المصريين من ثقافة الديمقراطية والقيم الإنسانية الأخرى. استمر الحال هكذا حتى الخامس والعشرين من يناير 2011، عندما خرج الشباب المصرى يطالب بالحرية والكرامة الإنسانية، وعندما كان يهتف «عيش..» فقد كان يطالب بالمساواة، وهنا بدأت مصر فى تجاوز الثقافة الأحادية والعودة إلى ثقافة التنوع والتعدد، واستلهام القيم الإنسانية، هناك مقاومة من تيارات الإسلام السياسى نعم، وهناك أيضا مقاومة أشد من أنصار النظام القديم الذين تربوا على الفكر الأحادى، ومن ثَمَّ يرفضون كل ما له علاقة بالقيم الإنسانية من حرية وديمقراطية ومساواة وتنوع.

خلاصة القول: نحن نعيش فى مرحلة تحول، وهى مرحلة تشهد صراعا حادا بين مَن يحملون ثقافة معادية للقيم الإنسانية وللديمقراطية، وبين مَن يدفع فى اتجاه نشر هذه القيم وتضمينها فى قلب الثقافة المصرية، المعركة شديدة وتختلط فيها الأوراق، فكثيرون من أعداء القيم الإنسانية وثقافة الديمقراطية ينتمون شكليا للتيار المدنى، وهم فى الحقيقة يحملون نفس قيم وأفكار التيار المتشدد المعادى للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

ببدء عمل البرلمان فى العاشر من يناير الجارى، تبدأ عملية التحول الديمقراطى فى مصر، فالبرلمان يمارس صلاحياته المنصوص عليها فى دستور البلاد، وقد تضيق السلطة التنفيذية ذرعا بهذه الصلاحيات والحقوق، لكن تصورى أنها سوف تعتاد عليها، وبمرور الوقت توضع اللبنات اللازمة لبناء نموذج مصرى فى التحول الديمقراطى، نموذج وطنى خالص لا هو مستورد ولا هو مفروض من الخارج، بل نابع من التربة المصرية، وأتصور أن كلمات الرئيس عبدالفتاح السيسى، فى الذكرى الخامسة لثورة الخامس والعشرين من يناير، تقول إن الرجل مستوعب تماما متطلبات عمليات التحول الديمقراطى والثمن المطلوب دفعه، وهو التسليم بالفصل بين السلطات والتوازن بينها.