«من يفرِّط في تاريخه، يسهل عليه مع الزمن أن يفرط في حقوقه السياسية والقانونية وحتى في جغرافيته». بهذه الحقيقة بدأت مقالي السابق، مشيراً إلى أننا إن أردنا أن نغير الواقع البائس الذي وصلنا إليه في مصر يجب علينا أن نتحقق إلى أي مدى تنطبق علينا هذه المقولة في العديد من المجالات .
وفي مقدمتها الموقف الحرِج شديد الخطورة الذي نواجهه إزاء خطر حقيقي يهدد ليس حصتنا الفقيرة من مياه النيل فقط، ولكن الأصح أنه يهدد حق المصريين في الحياة..
وعرجت من ذلك على تلك الصورة الشائهة غير الحقيقية التي انتهت إليها مصر في إثيوبيا ولدى عامة الإثيوبيين من كونها دولة تتعلق بإرث استعماري إمبريالي، ومن أنها دائما ما وقفت ضد تحقيق مصالح أديس أبابا، وهو الأمر المخالف تماما للحقيقة التي للأسف حتى نحن المصريين لا ندرك تفاصيلها، وتلك هي الخطيئة في حق النفس.
في ذلك اليوم من صيف عام 2004 جلست مستمعا ومتألما من تلك الاتهامات والادعاءات على وطني مصر من مجموعة من الصحفيين والمثقفين الإثيوبيين حتى أفرغوا ما بداخلهم، وذلك قبل أن يلتفتوا إليَّ مستمعين. وكما أوردت سابقا، فقد كان قراري الذي اتخذته في ثوان أن أؤمن على كل ما أتوا به من افتراءات، وهو الأمر الذي استثار حماستهم وترحيبهم بما وصفوه نموذجا مصريا نادرا للموضوعية والصراحة.
وقد سارت الندوة منذ اللحظة التي تسلمت فيها الكلمة كالآتي:
«نعم، يجب على أن أعترف بأن بلادي -مصر- كانت دولة ذات طموحات استعمارية. ففي عام 1902 وانطلاقا من دوافعها الإمبريالية، استشعرت مصر بأنه لا يليق أخلاقيا ولا هو خليق بجوار آمن أن تظل دولة جوار مباشر -حيث إن حدود مصر في ذلك الوقت كانت مع إثيوبيا- ترزح تحت نير الفقر والجهل.
في ذلك الوقت كانت إثيوبيا تجاهد تحت حكم مليكها ميلنك للخروج من العزلة المطلقة التي فرضها عليها حكامها على مدار قرون.
كانت مصر تنظر بأسف إلى إثيوبيا وهي ترى القوى الاستعمارية الكبرى في ذلك الوقت (بريطانيا- فرنسا- إيطاليا- بلجيكا.. وغيرها من الدول الغربية) تنهب ثرواتها وتحتكر موادها الأولية بأبخس الأسعار تاركة البلاد تغرق في بحر من الفقر والجهل.
ولذلك اهتدى تفكير مصر في ذلك الوقت -وهي الدولة الاستعمارية المزعومة حيث كنتُ ما زلت أوجه خطابي للإثيوبيين- إلى أن أول خطوة تمكن القاهرة من أن تأخذ بيد شقيقتها أديس أبابا هي أن تقيم لها البنية الأساسية لاقتصاد عصري يحررها من احتكارات القوى الاستعمارية الأوروبية ويرفع من أسعار مواردها المهدرة.
وقد كان أن أصدر الخديوي عباس حلمي الثاني «ديكريتو» أي قرارا بإنشاء بنك الحبشة Abyssinia Bank كفرع للبنك الأهلي المصري، وأن يكون مقر هذه المؤسسة المالية الأولى من نوعها في تاريخ إثيوبيا هو العاصمة أديس أبابا.
توقفت للحظات عن الكلام ناظرا في وجوه الحضور قبل أن أقول: «هكذا كان سلوك مصر الاستعمارية. نعم، لقد ارتكبت مصر خطيئة ويجب أن تعاقب عليها بحرمانها من مياه النيل».
استأنفت قائلا: «ولكن لم يقف الأمر عند هذا السلوك الاستعماري كما تحبون أن تصفوا المصريين، ولكن ميزانية بنك الحبشة -الذي كان فرعا للبنك الأهلي المصري- خرجت من ميزانية الحكومة المصرية حيث كان البنك الاهلي في ذلك الوقت هو البنك المركزي المصري.
وقد قام بنك الحبشة -الذي أقامته وأدارته مصر- بإصدار أول عملة ورقية في البلاد، كما قام بصك أول عملة معدنية موحدة، كما قام بإنشاء بورصة للمواد الأولية الرئيسية التي تنتجها إثيوبيا وفي مقدمتها البن والفضة ومواد أخرى..
بما أدى لمضاعفة أسعارها وبالتالي مضاعفة الدخل القومي للبلاد عدة مرات، كما أقام العديد من المخازن التي بنيت بمواصفات عالمية مصرية، ليس فقط في العاصمة ولكن في مختلف الأقاليم لتقليل الهالك من المواد الأولية. باختصار، مصر هي التي أقامت أول اقتصاد إثيوبي عصري نقل البلاد من عصور الظلام إلى القرن العشرين دفعة واحدة«.
توقفت ثواني ألتقت فيها أنفاسي، لكي أجد خليطا من علامات الدهشة والصدمة.. بالإضافة إلى عدم التصديق من البعض. وأحمد الله أنني كنت مسلحا ببعض الوثائق التي تحصَّلت عليها أثناء سنوات بحثي في ذلك الوضوع، فقمت بعرض هذه الوثائق ومن بينها القرار الخديويُّ بإنشاء بنك الحبشة في العام 1905.
بكل ما جاء به من تفصيلات بشأن طبيعة الكيان، ومقره، والأهداف المنوطة به والتي تدور حول إحداث نقلة تنموية هائلة لدولة الجوار المباشر إثيوبيا. وقفت ممسكا بهذه الوثائق قائلا: «هذه هي أدلة إدانة مصر على ما قدمه لوطنكم وهو ما لم تقدمه دولة أخرى لكم. كن أسمع صوت همهمات من الحضور وقد بدا على معظمهم علامات هي مزيج من الخجل والدهشة والإعجاب.
الجميل فيما قامت به مصر أنها دعمت من وقت لآخر فرع البنك الأهلي في الحبشة (بنك الحبشة) بشتى الطرق مستهدفة بذلك مصلحة الشعب الإثيوبي. وقد كانت الاجتماعات السنوية للجمعية العمومية لبنك الحبشة تعقد في المقر الرئيسي للبنك الأهلي الذي ما زال قائما في منطقة وسط البلد.
إلا أن أهم ما قام به البنك -وبالتوازي مع سنوات نموه- أنه نهض بنصيب الأسد في الدفع بأهم مشروع في تاريخ إثيوبيا، ألا وهو أول سكك حديدية تربط بين الأطراف المترامية لهذا البلد الجبلي الصعب، لكي تكسر أديس أبابا -ولأول مرة في تاريخها- العزلة المضروبة على المركز في التواصل السهل مع الأطراف.
ولعله من نوافل القول إن أول سكك حديد في البلاد أسهمت في تنمية التجارة الداخلية والخارجية بشكل غير مسبوق.
وغني عن القول أن جهود مصر في ذلك المضمار لم تحظ برضاء القوى الأوروبية التي رأت فيما تفعله مصر تحريرا لشقيقتها إثيوبيا من الاحتكارات الغربية التي كانت تدر الملايين على الأوروبيين، ولكنها تركت الإثيوبيين دائما على حافة المجاعة وأحيانا في قلبها.
وعلى مدار 26 عاما لم تكل جهود مصر في سبيل رفعة شأن إثيوبيا حتى إذا ما حل العام 1931 وعندما استشعرت القاهرة بأن جيلا من الإثيوبيين بات قادرا على أن يأخذ مقاليد إدارة بنك الحبشة بعد أن أصبح مؤسسة مالية واقتصادية ضخمة، قامت القاهرة بتسليم البنك (تسليم مفتاح) كهدية من الشعب المصري لشقيقة الإثيوبي.
هكذا ببساطة، هدية في زمن انعدمت فيه الهدايا المجانية بين الدول. ويشهد الخطاب الذي وجهه الإمبراطور هيلاسيلاسي في ذلك الوقت إلى الحكومة المصرية على مدى تقديره اللامتناهي لجميل مصر الذي وصفه بأنه من الصعب أن يرد عليه بمثله.
تأملت وجوه الحضور وقلت: «نعم، يجب أن أعتذر عن تاريخ وطني الاستعماري تجاهكم.. نعم، يجب أن يعتذر 90 مليون مصري عن خطيئة أجدادهم العظام في حقكم.. نعم، يجب أن أستشعر الخزي كلما رأيت فرعا لبنك الحبشة الذي ما زال هو البنك الرئيسي في إثيوبيا؛ لأنه يذكرني بتاريخ وطني الاستعمارى..».
ثوان وبدأ أحد الحضور بالتصفيق كي يتبعه آخرون بتصفيق حاد.
الشاهد، أنني تحدثت إلى أحد القيادات المصرفية في ذلك الوقت عن خطيئتنا في حق أنفسنا بأن تناسينا -حتى نسينا بالفعل- تاريخا مشرفا شديد التألق تجاه إثيوبيا حتى لم يعد بإمكاننا أن نلوم الإثيوبيين على تناسيهم لهذا التاريخ واستبداله بتاريخ آخر وهمي هو أقرب إلى قرار إحالة مصر إلى محكمة الجنايات.
المؤسف في ذلك أن هذا القيادي المصرفي عقب جولة محادثات للجنة المشتركة بين البلدين والتي عقدت في العاصمة أديس أبابا منذ سنوات، وأثناء خروجه من قاعة الاجتماعات أدلى بتصريحات للصحافة المحلية الإثيوبية. وقد أحب الرجل أن يدعم الصورة الذهنية لبلده من خلال ما قدمته له من كلام موثق.
فقال: «لقد أقامت مصر بنك الحبشة لكم من خلال بنك مصر». كدت أن أنفجر غيظا مما سمعته، فالرجل لم يحاول أن يركز فيما سمعه مني ومن أن الذي أقام البنك هو البنك الأهلي في العام 1905 وذلك قبل ثلاثة عقود على الأقل من إنشاء بنك مصر، وتلك عينة من كبار المسئولين..
قد يظن البعض أن المسألة توقفت عند ذلك، وهو غير صحيح، فقد استمرت الندوة، حيث أبدى الحضور رغبة في سماع المزيد، فإليه..
(يتبع)
المقال ينشر نقلا عن موقع هافينغتون بوست عربي