ليس لديها سوي حلمها البسيط بعدما تبخرت كل أحلامها الكبيرة التي راودتها طوال الـ5 سنوات الماضية، روادتها مع ثورة يناير، ومع كل حاكم يتولي زمام البلاد، بداية من المجلس العسكري ومروراً بحكم الإخوان ،وعدلي منصور،وحتي حكم السيسي،كان حلمها كلما كبر تلاشى مع كل نظام جديد
لم يتبق لها سوي حلم اليالي السبع.. سبع ليال تستطيع الخروج فيهم من «القمقم» ..«قمقم» لا تتعدي مساحته متر ونصف في مترين..«قمقم» عاشت فيه 20عاماً أو يزيد قليلاً.
لم يعد لديها سوي حلم ليلة العمر.. ليلة واحدة تكفي ..أو قل بأقصي تقدير 7 ليال.
ست ليال وليلة هي حكايتها وحكاية كل فتاة من أقرانها ،تحكي عنها كل واحدة منهن عندما تعود لنفس القمقم من جديد بطريقتها ،حكايات تفوق بالنسبة لهن حكايات ألف ليلة وليلة .
ولماذا لا تكون أحلي وأعزب من حكايات شهرزاد التي طالما استمعن إليها في الراديو- الوسيلة الوحيدة لاتصالهن بعالم اليابسة- فهي حكايات ملك لهن يصنعنها في ليال حب وغرام،وتبقي محفورة في ذاكرتهن طوال العمر.
كانت أحلام الفتاة العشرينية تحكي حكاية حلم الخروج من ذلك المركب الذي عاشت فيه طوال عمرها مع أسرتها،وتقول لصديقتها وهي تستقل المترو إلى العتبة «علي فكرة أنا أول مرة أخرج من البحر- تقصد النيل- أنا خايفة أتوه منك، أنا طوال عمري عايشة في قمقم اسمه مركب ..خلينا نشتري حاجات الفرح ونرجع بسرعة».
شعرت أنني أعرف أحلام منذ أكثر من 12 عاماً، نعم أعرفها، كلامها جعلني أعود بذاكرتي 12 عاماً للخلف، عندما أجريت تحقيقاً صحفياًعن الحياة في نيل القاهرة.
نعم أعرف هذا البؤس على الأرض ..وأعرف ذاك القمقم الذي تتحدث عنه، وأتذكر مقال الشاعر الدكتور حسن فتح الباب في جريدة الأهالي عن التحقيق وقتها، حين حكي حكايته مع «كم اللحم الذي وجده في مركب كان يحاول العبور من خلاله لإحدي القري في ريف المنوفية بعد ثورة 1952،وكان وقتها ضابط شرطة قبل خروجه للمعاش ،قال فتح الباب أنه سأل الصياد عن تعثره في جسد بني أدم مغطي ببطانية، فرد عليه الصياد هذه زوجتي وهذا المركب هو بيتنا ..وعبر فتح الباب في مقاله عن الحالة التي أصابته وقت الواقعة من اندهاشه من وجود مثل هذا الأمر رغم قيام ثورة يوليو.
كتب فتح الباب مقاله بعد قراءة تحقيقي الصحفي ،ليتساءل مندهشاً من استمرار هذا الأمر منذ ثورة 1952،وحتي عام 2003 ،وقت نشر التحقيق الصحفي.
وجاءت ثورة يناير 2011، وما تبعها من أحداث ،ورحل صديقي الدكتور فتح الباب عن عالمنا، لكن أحلام مابعد ثورة يوليو 1952 ،وأحلام عام 2003، مازالت هي نفسها أحلام 2016 ،تصارع أمواج نيل القاهرة.
تحكي أحلام عن حلمها بالخروج من النهر للعيش أسبوع عسل على اليابسة، أية يابسة المهم العيش بعض الوقت على أرض ثابتة، وتحت سقف بيت ثابت ككل البشر ،بعيدا عن مركب تعصف به الرياح إذا ما هبت، وتلعب به أهواء شرطة المسطحات إذا ما غضبت، مركب لا يحميه من لهيب شمس الصيف حامٍ ولا صقيع الشتاء ساتر سوي مشمع هش يشعرك أنهم أسر تعيش ككائنات «صوباتية»، ماسخة «مثل الخضروات والفواكهة التي تنمو في الصوب.
كانت أحلام تتحدث مع صديقتها، وكانت ذاكرتي- وأنا جالس على المقعد المقابل لمقعدها في المترو- تستكمل ما لم تقله في حديثها.
تذكرت بعض ماقصته لي إحدى الفتيات عن حياتها في النهر منذ 12 عاماً،حين قالت لي أنها تأوي إلى «كوبري»هنا أو هناك ،إذا ما أرادت تنزل النهر للاستحمام، وعليها أن تحسن اختيار الوقت، وتعد العدة من المراكب المساعدة التي تأتي بها باقي الفتيات ليتبادلن النزول للنهر والحراسة، تحمي بعضهن البعض من العيون إذا ما اقتربت ،يفعلن ذلك وهن يعلمن أنهن غير بعيدين كل البعد عن المشاهدة ،ولا حيلة لديهن غير عدم التخلي إلاعن بعض ملابسهن ،ليبقي البعض الآخر للسترة،وإذا ما تجرأت إحداهن بالتخلي عن المزيد نهرتها الفتيات الآخريات،خوفاً وتحسباً من أي شيءيحدث.
ليبقي حلم ليلة العمر هو حلم الخروج العظيم قائماً لبنات النيل ،لا يتحقق إلا بالزواج ،حيث يؤجر العريس غرفة على اليابسة لمدة 7 أيام «ليقضي بها أسبوع عسل مع عروس النيل» يعودا بعدها لبيتهم الأبدي في النيل مرة آخري.