طه حسين وفلسطين.. بالفرنسية

حلمي النمنم الثلاثاء 26-01-2016 21:08

يبحث منذ سنوات د. عبدالرشيد محمودى وراء تراث د. طه حسين المكتوب بالفرنسية، وأصدر من قبل كتاباً حمل عنوان «من الشاطئ الآخر» ضم دراسات الأستاذ العميد المنشورة بالفرنسية خارج مصر، وكان أن ترجمها هو إلى العربية ونشرها، بعدها ترك د. «عبدالرشيد» طه حسين وانصرف إلى كتاباته وإبداعاته هو، ثم ما لبث أن عاد مجدداً إلى العميد مع أحاديث أملاها بالفرنسية، لكن لم يُنشر معظمها، وقد تسلمها من أسرة طه حسين «الأحفاد»، وقام بترجمتها، ونشرتها «الأهرام» العام الماضى، ثم جمعها فى كتاب- صدر هذا الأسبوع- عن المركز القومى للترجمة، ونشر الأصول الفرنسية وفى مقابلها الترجمة العربية، مع مقدمات وتحقيق أجراه حولها.

هذه المقالات والآراء التى لم يُجِزْها صاحبها للنشر، لسبب ارتآه، أو لعله لم يكن راضياً عن مستواها.. هل يجوز نشرها؟ الورثة سمحوا، لكن ماذا عن صاحبها نفسه، الذى لم يسمح، وبات فى ذمة الله؟!! لو أخذنا بهذا المعنى فإننا سوف نحرم القارئ من أن يلم بتراث وأعمال كاتب له وزنه الثقيل، وقد يرى البعض أن تُتاح الأوراق للباحثين فقط، فى دار الكتب مثلاً، يتداولون فيها للدراسة وللبحث بدلاً من النشر العام، ويبقى الرأى الغالب، وهو الإتاحة، وفى هذا الصدد يجب أن يُحسب لأسرة العميد أنها لم تحجب شيئاً من أوراقه عن الدارسين ولا عن النشر العام، فى حين أن ورثة بعض الكُتاب حجبوا أو بددوا أوراقاً تركها مُورِّثهم.

بعض الأوراق التى بين أيدينا تبدو للوهلة الأولى أنها كانت قيد الإعداد ولم تأخذ شكل الصياغة النهائية، مثل مقدمة لكتاب ابن سينا «الشفاء»، وبعضها بالغ الأهمية، إذ إنها تكشف كيف كان العميد يواجه ويتعامل مع الثقافة الغربية، بل المجتمع الغربى، فى مصر وجدنا معظم خصومه، خاصة من المتطرفين والمتشددين، يتهمونه بالانصياع للرؤية الغربية، وتزيَّدوا فى ذلك، وراحوا يربطون بين تزوجه من سيدة فرنسية وذلك الانصياع الذى توهموه، هو فى تلك الأوراق يبدو صلباً فى مصريته وفى عروبته، ودفاعه عن قضايا أمته، يتضح ذلك فى مقالين: الأول هو محاولة لشرح كيف يمكن لغير العربى تذوق معانى القرآن الكريم والتحليق مع كلماته فى سماوات الروح والوجدان.

الثانى يحمل عنوان «مشكلة الشرق»، ويواجه فيه أوروبا الاستعمارية بحدة وصلابة، مُندداً بالاستعمار والمناورات الأوروبية مع شعوب وبلاد المنطقة، واختار قضيتين فى هذا المجال، القضية الفلسطينية وقضية شمال أفريقيا، وتحديداً المغرب والجزائر، وما كانت تقوم به فرنسا هناك، وقد صارت تلك القضية فى ذمة التاريخ، هاجمه خصومه من جماعة الإخوان وطعنوا فى تدينه وفى وطنيته، وزعموا أنه لم يذكر بأى كلمة الاستعمار الفرنسى للجزائر، وفى دراسة سابقة لى أثبتُّ أنه كتب فى عدد الصحف المصرية مدافعاً عن الشعب الجزائرى، حتى قبل قيام الثورة الجزائرية، وفيما يخص القضية الفلسطينية، أصدرت سنة 2010 كتاباً حولها بعنوان «طه حسين والصهيونية»، جمعت فيه ما كتبه العميد حول القضية الفلسطينية، فضلاً عن مواقفه، وفى هذه القضية اتُّهم كثيراً بسبب أن مجلة «الكاتب المصرى»، التى ترأس تحريرها، كان يمولها يهود مصريون، رغم أن هؤلاء الملاك حين خرجوا من مصر عاشوا فى أوروبا، ولم يذهبوا إلى إسرائيل ولا حملوا جنسيتها؟

المقال الذى كشف عنه د. «عبدالرشيد» النقاب كُتب بالفرنسية لجمهور فرنسى، وكُتب بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة، ونُشر فى حينها، هذا المقال، كان قبل صدور قرار التقسيم بعامين.

يقول العميد فى ذلك المقال: «المشكلة الفلسطينية مشكلة خلقها الغرب برمتها نتيجة لسياسة الوعود غير المدروسة التى قدمتها بريطانيا العظمى خلال الحرب الأخرى، فقد عاش العالم لقرون بسلام مع وجود فلسطين عربية...»، هو هنا يشير إلى وعد بلفور الصادر فى نوفمبر 1917.. ثم يستعرض ما حدث أثناء الحرب العالمية الثانية، ويقول: «ينبغى على الذين خلقوا هذه المشكلة على نحو مصطنع أن يقدموا لها حلاً، وأن يُخلّصوا العالم من هذا الكابوس»، ثم يواصل القول: «كانت فلسطين دولة عربية، وهى مازالت عربية، وينبغى أن تبقى كذلك، ويجب أخيراً أن تحكم نفسها كما تريد وليس كما تريد لها قوة أو أخرى من أوروبا أو أمريكا»، هذا القول من طه حسين نريد أن نقوله كثيراً وأن نسمعه اليوم، لكن لا أحد يريد أن يقول، ولا أحد يريد أن يسمع، معظمنا لاهون عن فلسطين وما يجرى لها.. رحم الله الأستاذ العميد.